موقع علاء السيد... طباعة
<<<< >>>>

المقبرة خالية من الأشباح!

سألني أحد الأصدقاء المتدينين: "أريد أن أذوب في الله العظيم، وأنسى نفسي في حضن الرحمن الرحيم... الاستكبار شيء مؤلم جداً، وأريد أن أضحّي بهذا الاستكبار أمام الله... فماذا عليّ أن أفعل؟"

أعرف الرجل جيداً.. طوال سنين كان يذهب إلى المسجد من الفجر حتى المساء.. يسجد بخشوع لله ويستغفر ويبكي ساعات متواصلة... رغبته صادقة وعنده حماس كبير لكن اتجاهه خاطئ، لأن الشخص الذي يقبل "الأنا" يصبح هو "الأنا" بسبب قبول الفكرة ذاتها.

وانطلاقاً من هذه "الأنا" يتبعها الألم، وبعدها يريد الشخص التخلص منها ويريد تقديم وتكريس نفسه لله... لكن اللب المركزي لهذا التقديم هو أيضاً "الأنا".... لأنه من ذاك الذي يريد أن يقدّم؟

من هو الذي يريد أن يتخلص من الألم والضيق؟ أليست هي "الأنا" ذاتها؟.... لمن يعود هذا القلق والشوق لله والسعادة الأسمى والتحرر؟ من هو الذي يجعلك تركض في الدنيا، ثم يُثيرك ويدفعك للتحرر من الدنيا؟!.. أليست هي "الأنا" ذاتها؟

اسمح لي أن أسألك: هل معقول أنني "أنا" يمكنني أن أستسلم وأسلّم نفسي؟ "أنا" أريد تقديم نفسي.. هل تقدر على رؤية "الأنا" في هذا التقديم؟ أليس هذا تقديمي أنا أيضاً؟

كل ما هو "لي" سيولد "لي" أو "أنا" جديدة...

أليست ثروتيّ، مهنتي، زوجتي، أولادي، كلمات تنتج هذه الأنا؟ وتحرريّ، زهدي، تقديمي، خدمتي، صَدَقتي، تضحيتي، ديني، روحي، أيضاً تنتج هذه الأنا؟.... طالما بقي أي ذرة من الأنا أو ياء الملكية ستبقى الأنا أيضاً سليمة كما هي.

 

كل فعل ناتج عن الأنا، سواء خطيئة أم فضيلة، انغماس أم استغناء، يمين أو يسار، يقوّي الأنا..

سواء بإنجاز فِعل ما، أو بالاستغناء عن فعل أو شيء، لن يقوى شيء إلا الأنا.. وتتكدس طبقات منها.

ألا يوجد أي طريقة للتخلي عن الأنا؟ أليس هناك طريقة أو تقنية للاستغناء عنها؟

مستحيل.... لا يوجد طريقة أو وسيلة للاستغناء عن الأنا أو هجرها، لأن كل ما يمكن فِعله يُثبت في النهاية أنه غذاء جديد للأنا... بالأفعال والأعمال أو بالقرار والتصميم، لم يقدر أي أحد أبداً على الخروج من الأنا ولن يقدر أحد: لأن القرار والعَزم هو الأنا ذاتها بشكل مصغّر.

العزم هو شكل غير ناضج من الأنا... بعد نضوجه يتحول إلى أنا... الأنا هي الحالة المتصلبة النهائية لأي عزم أو تصميم.

لذلك كيف يمكن الاستغناء عن الأنا بمساعدة العزم؟ وما هي جميع محاولاتنا؟ تضحياتنا وعطاءاتنا؟ أليست كلها امتداد من العزم والفكر؟

محاولات التحرر من الأنا بواسطة الأنا ذاتها هي حماقة كبيرة، تشبه محاولة أن تحمل نفسك من خيوط حذائك!

 

في الحقيقة، لا يمكن الاستغناء عن الأنا، لأنها إذا كانت موجودة فكل شيء سواها غير موجود ولا يمكن أن يوجد.... وإذا كانت الأنا غير موجودة فهي ببساطة غير موجودة، وعندها موضوع عدم وجودها أو نفيها لا يظهر أبداً.

لذلك، من الأفضل معرفة هذه الفكرة عن الأنا... وأقول: ليس بتسليم وتقديم الأنا بل بالمعرفة... ليس بالتأمل بل بالمعرفة... ليس بالزهد والاستغناء بل بالمعرفة... ومعجزة المعجزات: رغم أن الأنا تتغذى وتتضخم بالأفعال أو بالاستسلام عن الأفعال، لكنها بهذه المعرفة لا يمكن إيجادها أبداً!!

معرفة الأنا في اكتمالها وكمالها هو التحرر منها...

 

لا يمكن الاستغناء عن الأنا لأنها في الحقيقة غير موجودة، وعلينا اختراع الأكاذيب دون جدوى للتخلي عن شيء غير موجود...

الأنا شيء غير حقيقي، شيء مزيف... ولأجل الاستغناء عن شيء مزيف عليك اختراع شيء مزيف آخر اسمه الاستغناء أو التسليم والاستسلام، وعندها لدعم زيف "التسليم" يجب اختراع تزييف آخر تدعوه "الله" في مخيلتك... لكن ليس هناك أي تحرر عبر الأشياء المزيفة... ومن ناحية ثانية ستتراكم الأكاذيب والخرافات في حياتك.

 

كان هناك شحاذ بسيط... وجد في أحد الأيام طفلاً مهجوراً جانب الطريق... فجلبه إلى البيت وأنشأه حتى صار شاباً.

وكان هناك مقبرة وراء كوخ الشحاذ... وذلك الولد كان مشاغباً جداً، لذلك كان دائماً يلعب في المقبرة ليل نهار.. فقام الشحاذ بحيلة ليمنع الولد من الذهاب إلى المقبرة وقال له: "لا تذهب إلى المقبرة في الظلام... فالأشباح المخيفة تسكن فيها ويمكنها ابتلاع الإنسان لقمةً واحدة"

من الطبيعي واعتباراً من ذلك اليوم، بدأ الولد يخاف من المقبرة ويتجنب المرور فيها... بعدها كبر وذهب إلى المدرسة البعيدة، وشعر أيضاً بالخوف من العزلة والظلمة ليلاً.

بعد بضعة سنوات عاد للبيت وقد أصبح شاباً كبيراً... لكن خوفه قد صار كبيراً أيضاً... في إحدى الأمسيات طلب منه الشحاذ أن يذهب إلى القرية عبر المقبرة ويجلب له أغراضاً من السوق.. لكن الشاب بدأ يرتجف بمجرد تفكيره بالدخول للمقبرة في الليل وقال: "كيف سأقدر أن أذهب هناك في الظلام؟ ذلك المكان مسكون بالأشباح التي تأكل البشر!؟"

ضحك الشحاذ عالياً... وقام بربط طلسمة ورقة فيها آية قرآنية حول ذراع الشاب وقال له: "الآن يمكنك الذهاب... ولن تقدر الأشباح على إيذائك.. لأن هذه الطلسمة ستجعل الله يحميك دائماً ويكون معك أينما ذهبت... ولأن الله معك فلن يقدر أي شبح على الظهور أمامك... عندما يكون الله بقُربك كيف يمكن أن تخاف من الأشباح؟"

هكذا ذهب الشاب، وعندما لم يجد أي شبح في المقبرة تأكدَ تماماً من قوة الله وحمايته التامة...

اختفت الأشباح بتلك الطريقة، لكن الله أتى... والله الذي تمّ جلبه لطرد الأشباح، طبعاً لم يظهر إلا أنه شبح أكبر لا أكثر.

ذلك الشاب وبمساعدة الله، انتهى تماماً من موضوع الأشباح وصار فكره صافياً منها، لكنه لم يقدر على إبعاد الطلسمة عنه حتى لحظة واحدة.... وكان طبيعياً وحتمياً له أن يخاف من الله الذي قدر على تخويف حتى الأشباح المرعبة.... كان خائفاً من استغناء الله عن صحبته بسبب بعض الأخطاء أو الخطايا والآثام... وعندها ستأتي الأشباح لتنتقم منه أشد انتقام.... لهذا السبب، بدأ بعبادة الله والصلاة له... لم يبدأ بالعبادة والصلاة والصيام فحسب، بل كان عليه أيضاً أن يخاف من ممثّلي الله وسماسرته ورجال أعماله في الأرض... رجال الدين طبعاً لا غيرهم!

مع رؤية كل هذا، انزعج الشحاذ وحزن... لقد أثبتت وصفته السحرية أنها مرض أشد وأصعب.. الأشباح المساكين كانوا أفضل بكثير من هذا الله... لقد كانوا يزعجونه ويلاحقونه في المقبرة فقط وفي ظلام الليل فقط.. أما هذا الله فهو وراءه حتى في ضوء النهار! وإذا لم ترى الله فهو يراك ويختبئ وراك!

في إحدى الليالي المقمرة وكان القمر مكتملاً... سحب الشحاذ الطلسمة من ذراع الشاب وألقاها في الموقد أمامه... وبدأ الشاب يرتجف ويرتعد وشحب لون وجهه... كان سيُغمى عليه، لكن الشحاذ ساعده قليلاً ثم روى له القصة بكاملها عن ولادة الأشباح، ثم اختراع فكرة الله وطرحها عليه..... وعندما اقتنع الشاب قليلاً، أخذه الشحاذ إلى المقبرة... بحثا سوية في كل زاوية منها، وتفاجأ الشاب بعدم وجود أي أشباح فيها.

بتلك الطريقة اختفت الأشباح واختفى الله... وشعر الشاب بالراحة والحرية من الخوف...

في الحقيقة، إن البحث العميق عن الأشباح ومساكنها، لا يقود إلا للتحرر منها...

"الأنا" تُنتج الألم وتجلب العذاب، وتولّد أنواع القلق وفقدان الأمان والخوف من الموت... لذلك ولإيجاد مهرب منها، تم اختراع فكرة "الاستسلام والتسليم" لله... بسبب هذا الخوف تحديداً تمّت ولادة الله والتضحية له والقرابين والعبادات، مع أن الأنا غير موجودة أبداً أبداً...

طالما نحن لا نبحث عن الأنا ولا نعرفها، ستبقى موجودة...

ليس لها وجود إلا في الجهل، وكيف يمكن التضحية بشيء غير موجود في الأصل؟

إذا كانت الأشباح غير موجودة، فماذا هناك لتهرب منه؟...

عندما توجد الأشباح ستوجد حاجة لله... وعندما توجد "الأنا" ستوجد حاجة للاستسلام لله...

 

قُم بالبحث وإيجاد أشباح "الأنا"، وليس الطلمسة السحرية للحماية منها!

غُص داخل أعماق نفسك، واكتشف مكان تواجد هذه الأنا

حالما تبدأ بالبحث ستجد أنها غير موجودة

المقبرة خالية من الأشباح

ووجود النفس خالي من الأنا...

عندها لا يبقى هناك إلا الله

وما ستختبره هو الرضى والتسليم الحقيقي

فلا يوجد في الوجود إلا الله...

والرحلة من رحم الأم إلى رحمة الرحمن

قد اكتملت أخيراً.. هنا والآن

أضيفت في:26-4-2014... زاويــة التـأمـــل> رسائل من نور
.... إذا وجدت أن الموضوع مفيد لك، أرجو منك دعم الموقع

 

 

© جميع الحقوق محفوظة.. موقع علاء السيد