موقع علاء السيد... طباعة
<<<< >>>>

لماذا أكثرنا للحق كارهون وللناطق به راجمون؟

 

 

لماذا تاريخ البشرية كله متشابه ومتكرر...

لماذا تكره الحشود كل نبي وكل مسيح وكل حكيم؟

لماذا يكره العوام أي شخص مستنير يجلب لهم قليلاً من النور الجديد؟

 

 

إن الحشود من عامة الناس يعيشون حالة بعيدة جداً عن الفردية.. يعيشون دوماً مثل قطيع الأغنام.. لذلك كلما أتى شخص مثل النبي أو المسيح أو بوذا، وعاش فرديته وتمرّده على الماضي الموروث وأظهر حريته وحضوره، من الطبيعي أن يكرهوه... الحشود يخافون لأن وجودهم يهتز من جذوره... إذا كان النبي على حق، يجب إذن تغيير كل طريقة حياة الحشود، وهذا يتطلب عملاً كثيراً، وقد استثمر الناس كثيراً من وقتهم ومالهم في استعبادهم لأنفسهم..

إن حضور النبي يجعل الناس يشعرون بالإفلاس.. عندما تقابل شخصاً مستنيراً سيتضاءل حجمك إلى كائن بشع غير بشري! ستفقد كل كرامتك المعهودة وستشعر بالإهانة والخزيّ.. إذا كنتَ ذكياً سترتقي وتستغل الفرصة، ستشاهد أنك كنت تعيش حالةً من الجهل والشخير حتى الآن.. وستشعر بالامتنان للمستنير لأن حضوره قد أصبح شعاعاً من النور يخترق ليلة روحك السوداء.

لكن ذلك المقدار من الذكاء نادر جداً.. معظم الناس أغبياء وعنيدون، لذلك فوراً يقومون بردة فعل عنيفة... بدل الارتقاء وقبول التحدي للوصول إلى القمة التي يعيش فيها المستنير، يقومون بتدميره وقتله ورجمه وصلبه... لكي يقدروا على النوم مجدداً والعودة إلى أحلامهم الوردية السعيدة.

لهذا أكثر الناس للحق كارهون ولقائله راجمون... وجود شخص ناطق للحق يسبب مشكلة، ولا يمكن تجاهل وجوده مطلقاً.. إما أن تكون معه أو تكون ضده.. متى ما مررتَ بحالةٍ لا تستطيع فيها تجاهل وجود شخص ما وعليك أن تختار، يحدث اضطراب كبير في كيانك، لأنه لا يوجد أي خيار سهل.. الاختيار يعني التغيير.

لقد عشتَ خمسين سنة بطريقة معينة، وأصبحت عاداتك راسخة بقوة.. والآن يأتي شخص فجأة يناديك لتخرج من قبرك الذي كنت تعتقد أنه حياة حقيقية.. كل ما كنت تعيش لأجله تافه، كل القيم العظيمة والأخلاقيات والفضائل والمعارف والأديان القديمة.. فقط قليل من الناس الشجعان فعلاً سيقدرون على استغلال الفرصة للنهوض والمجازفة بكل ما يحملون، ولأجل شيء غير مرئي، لأجل شيء لا تقدر إلا على الثقة به وأن تستفتي قلبك.

 

طبعاً هذا صعب جداً على عامة الناس لأنهم دوماً يختارون المعروف المعلوم.. النبي ظاهرة نورٍ من المجهول، وكذلك المسيح وكل حكيم.. الموضوع هنا: هل تختار المعروف المألوف الآمن الملائم والمريح، أم تختار المغامرة والسير مع النبي إلى مكان ليس على الخريطة، إلى شيء لا يمكن لأحد أن يتأكد منه ومن وجوده؟

سيشكك الحشود بحقيقة كل نبي، هل هو مخدوع أو ربما يخدعنا ويتكلم عن الله والملائكة والجنة والنار؟ لا يمكن بأي طريقة أن تتأكد فكرياً أو منطقياً.. حتى تصاحب النبي يجب أن تقبل ذلك التردد والتشوش العميق في الفكر وتثق بقلبك المغامر.. فقط أولئك الذين لا يزالوا شباباً، الذين عقولهم لا تزال نضرة لم تجمع كثيراً من الغبار، الذين لا زال عندهم مقدرة على الدهشة والتفكر بالحياة، الذين لم يستقروا وينغلقوا وينتهوا ويموتوا بعد... فقط أولئك الناس القلائل سيقدرون على السير مع الحق وصاحب الحق في أي زمان كان.

بقية الحشود لا بد أن تكره وتكفّر وترجم....

 

وعندهم أيضاً عدة أسباب أخرى.

يحبّ الناس الانتماء للمجموعات والتجمعات.. هذا يعطي نوعاً من المواساة والرضى الظاهري، يوهم الشخص أنه "على المسار الصحيح"... إذا كنتَ مسيحياً أو مسلماً مثلاً فهناك مليارات المسلمين يسيرون معك وأنت تنتمي لهم، لستَ وحيداً، وهكذا تشعر بالطمأنينة وضمان الحقيقة مجاناً.

أما إذا كنتَ مع مستنير حيّ هنا والآن، ستكون فرداً وحيداً تقريباً، كالقابض على الجمر وواقف على رأس الجبل.. ستخرج طبعاً من الحشود التي كنت تنتمي إليهم حتى الآن.. لفترة قصيرة ستشعر أنك تائه في لامكان وأنك لا أحد.. شخص مجهول دون اسم ولا لقب... لن تكون هندوسياً أو مسلماً أو مسيحياً، وتلك التسميات قد أصبحت هويتك.

لقد كنتَ مسيحي أو سني أو شيعي، هذه هويتك الوحيدة وكل ما تعرفه عن نفسك.. إذا سألك أحد ما: من أنت؟.. يمكنك أن تقول: أنا كاثوليكي.. هذا يعطيك شعوراً وهمياً محدداً بأنك تعرف نفسك... ويستمر الناس بالعيش في عوالم الأوهام.. لكن عندما تعيش الأوهام لفترة كافية ستبدأ تظهر كأنها حقيقة وتبدأ تصدقها.

عندما يولد الطفل، لن يكون مسيحي أو يهودي أو بوذي... وهو سعيد تماماً دون حمله أي صفة أو ختم.. لكنه قريباً سيصبح مسيحي أو مسلم أو شيئاً آخر.. لا بد أن أهله سيعلموه ويعطوه لقباً وهوية، هذا اللقب يعني لك الكثير لأنه يخفي خلفه فراغاً شاسعاً.

بمجرد أخذ اللقب منك، ستقع في وادي سحيق..

وما لم تكن شجاعاً حقاً للذهاب في ذلك الفناء، ستظل راغباً ومتعلقاً بذلك اللقب.

 

تم إجراء بعض التجارب من قبل Henri Tajfel at Bristol University وأعطت نتائج غير متوقعة... تم تعريض فرق من أطفال المدارس بعمر 14-15سنة لاختبار نفسي سريع مزيف، بعدها أخبروا كل طفل أنه إما شخص "جوليوس" أو شخص "أغسطس"... لم يعطوهم أي شرح عن صفات الأشخاص من نوع جوليوس أو أغسطس، وكذلك لم يعرف الأطفال من كان بقية الأعضاء في مجموعتهم.

ومع ذلك، حددوا أنفسهم فوراً بمجموعتهم الوهمية، صاروا فخورين بأنهم شخص جوليوس أو أغسطس لدرجةٍ صاروا فيها مستعدين للتضحية بالمال لأجل فائدة إخوتهم المجهولين ضمن المجموعة، ولأجل إزعاج المجموعة الأخرى.

قالTajfel  أنه يمكنك تغيير سلوك الشخص بشكل متوقع، بمجرد إخباره أنه ينتمي إلى مجموعة ما، حتى إلى مجموعة لم يسمع بها من قبل... قام المشارك في تلك التجارب بشكل آلي تقريباً بتفضيل أعضاء مجهولين من مجموعته على غيرهم، وإذا سنحت له الفرصة سيعمل أي شيء يقدر عليه لأجل إزعاج وضرر أعضاء مجموعة أخرى... سيلتصق الناس ببعضهم ويؤيدون المجموعة التي تم تحديدهم بها، دون أي تلقين أو معرفة عن أعضاء المجموعة أو الصفات المفترضة لها.

فقط من خلال الاستيعاب الكامل لأهمية الميل الإيجابي والسريع عند البشر للإنتماء والتحدد بأي مجموعة يجدون أنفسهم فيها، يمكن للمرء أن يصنع قاعدة متينة لفهم وإيجاد أصل العدائية عند البشر.....

 

هذه التجارب لـ Henri Tajfel لها أهمية بالغة..  الناس يحبون "الانتماء"... وعندما يأتي شخص حي مثل المسيح أو النبي، سيقتلعك جذرياً من مجموعتك القديمة.. يأتي المسيح ويخرجك من مجموعة اليهود التي كنت تنتمي لها.. يبدأ بصنع شيء جديد ليس له ماضي أو تاريخ أو سمعة واحترام.. يبدأ ببساطة من الألف باء أو من الصفر.

طبعاً لا بد أن صحابة الأنبياء حملوا الصدق والنزاهة والشجاعة، وإلا لما صاحبوهم.. لأن صحبة النبي الحي تعني الخروج من مجتمع اليهود الذي ولدوا ونشؤوا فيه، انتموا إليه وكانوا يفتخرون دوماً بذلك، بأنهم شعب الله المختار مثلما كانوا يعتقدون.... أتى يسوع، رجل فقير بسيط ابن نجار، لا شيء من التاريخ والماضي يدعمه، وبدأ يشكل مجموعة من الناس حوله.. مجموعة جديدة تماماً، وتحتاج وقتاً طويلاً حتى يبدأ الناس بالانتماء لها، طبعاً هذا سيحدث فقط بعد أن يموت المسيح، لكن بعد موته ليس هناك فائدة.

بعد أن مات كل نبي ومسيح، بعد حوالي 200 أو 300 سنة، بدأت الأديان المنظمة مثل المسيحية وشكلت مجموعة خاصة.. عندها صار الناس سعداء بالانتماء إليها... والآن صار الملايين سعيدون بالانتماء للمسيحية أو للإسلام نفس الكلام.

الناس يحبون الانتماء... لكنك إذا أتيت إلى مستنير حيّ ستفقد كل انتماء.. ستصبح فرداً فريد ووحيد.. وستسير مع شخص ليس له ماضي أو دعم من التقاليد القديمة.. سيكون سيراً صعباً محفوفاً بالمغامرة والمخاطرة...

الناس يحبّون الانتماء حتى للمجموعات الوهمية مثلما أوضحت تلك التجارب، فماذا نقول عن الأديان المنظمة المليئة بشرائع الجهل والتكفير؟

 

قال Arthur Koestler:

"إنني أجد هذه التجارب من Henri Tajfel مهمة جداً وتوضح الكثير، ليس فقط عن الأسس النظرية بل أيضاً من تجربة شخصية حدثت لي في الطفولة، لم تتوقف أبداً عن إثارة حيرتي وإزعاجي حتى اليوم.

في يومي الأول في المدرسة، عندما كان عمري 5 سنوات في هنغاريا بودابست، سألني أصدقائي في الصف سؤالاً حاسماً: (هل أنت MTK أم FTC ؟) .. (مثلما يسأل كل الأطفال والكبار بعضهم عندنا، هل أنت مع حطين أم الكرامة أو الوثبة أو البرازيل وألمانيا..)

تلك الأحرف كانت اختصار أسماء أولى فرق كرة القدم في المنافسة على بطولة الدوري، مثلما كان كل طلاب المدرسة يعرفون، ما عدا أنا الطفل الصغير الذي لم يشاهد أي مباراة من قبل.

مع ذلك، كان الاعتراف بذلك الجهل الكبير غير مقبولاً، لذلك أجبتهم بتأكيد حاسم: MTK طبعاً!!

هكذا تم سكب وتصلّب القالب منذ ذلك الوقت.. طوال فترة طفولتي في هنغاريا وحتى بعدما انتقلت عائلتي إلى فيينا، بقيتُ متحمساً ومؤيداً رسمياً لفريق MTK وقلبي لا يزال يخفق لأجلهم ويطير إليهم عبر البلدان.. وفوق ذلك، قمصانهم الرائعة ذات اللون الأزرق والأبيض لم تفقد سحرها يوماً، بينما القمصان العفنة ذات اللون الأخضر والأبيض التي يرتديها منافسونهم التافهون لم تتوقف عن إصابتي بالاشمئزاز...

أنا حتى أميل للاعتقاد بأن ذلك الاعتناق أو الانتماء الباكر، لعب دوراً في جعل اللون الأزرق هو لوني المفضل..

بعد كل شيء، السماء لونها أزرق، والأزرق هو لون رئيسي، بينما الأخضر هو مجرد ناتج عن تعديل الأزرق بالأصفر... أنا ربما أضحك على نفسي، لكن التعلق العاطفي، الربطة السحرية، لا تزال هناك، وتغيير ولائي من فريق MTK الأزرق والأبيض إلى فريق FTC الأخضر والأبيض هو كُفر محض!

بالحقيقة، نحن نلتقط ولاءاتنا مثلما نلتقط الجراثيم المُعدية... وأسوأ من ذلك، نسير في حياتنا غير مدركين لهذا التصرف المرضيّ، الذي يخدع الإنسان ويقوده من كارثة تاريخية إلى كارثة أخرى."

 

هل ترون كيف يشفروننا أيضاً على أعلام فرق كرة القدم وأعلام الأوطان الوهمية والثوروية ليطبقوا مبدأ فرّق تسد؟

عندما تأتي إلى شخص يعيش الحقيقة، أنت سلفاً كنت تنتمي إلى مجموعة طوال حياتك.. كنت دائماً هندوسياً مسيحياً مسلماً أو يهودياً... وهذه ليست مجرد مجموعات عادية مثل فرق كرة القدم، بل هي تقوم بالتلقين والبرمجة بأفكار ومعتقدات وشرائع منذ نعومة أظفارك... لذلك كل الناس مشفرون لدرجة كبيرة.

لذلك، متى ما حضر شخص حي مثل النبي أو المسيح، لا بد أن يكون كل تشفيرك ومعتقداتك ضده.. إنه يريد خلق فكر واعي نظيف غير مشفر وهذه هي المشكلة... يريد لك أن تتخلص من كل عُقدك وتعلقاتك المريضة وهذه هي المشكلة... أنت متعلق جداً بمرضك وعقدك وأفكارك المتحجرة، وأي شخص يريد رؤيتك سليماً وحياً سيبدو مثل العدو لأن الإنسان عدو ما يجهل.. هل ترى النقطة؟

 

من الطبيعي أن تنتشر الإشاعات والتعليقات والتكفير والرجم ضد أي شخص حي يشارك بأي حقيقة.. لأن الحقيقة دوماً تهدد التجار وأصحاب المصالح الخاصة... سيخاف كل من عنده تجارة باسم الله وباسم الأديان وباسم الصحة والأوطان...

إخراج أي شخص من مجموعته التي انتمى إليها طوال عمره، هو إهانة للمجموعة، لأن عددها قد نقص.. والعدد يعني القوة.. في هذا العالم، كلما انتمى عدد أكبر من الناس إلى مجموعتك، كلما أصبحت أكثر قوة وسلطة.. وهكذا تجري كثير من التجارة والسياسة باسم الأديان وبيع الإنسان.

لا بد أنهم سيتهمون ويرجمون ويقولون أنك ضد نبيٍ أو دينٍ ما، مثلما قالوا لأصحاب النبي أن محمد ضد المسيح، وقالوا لأصحاب المسيح أن المسيح ضد موسى، وقالوا لأصحاب بوذا أن بوذا ضد صحف الفيدا.. وهكذا... هذه قصة قديمة متكررة ليست جديدة أبداً.

 

الحقيقة لا يمكن أبداً أن تقبلها الحشود، لأن الحشود يعيشون في الأكاذيب.. وقد عاشوا في أكاذيبهم فترة طويلة لدرجةٍ لم تعد أكاذيباً بالنسبة لهم، صاروا يؤمنون بها تماماً.

عندما تقول أي شيء مختلف عن معتقداتهم، ستصنع ارتباكاً عندهم، ولا أحد يحب الشك والارتباك... ستصنع رجفةً وشكاً في داخلهم، ولا أحد يقبل بالشك... الشك موجود هناك عميقاً في أرواحهم، لذلك عندما تقول أي شيء ضد أفكارهم سيبدأ الشك يرتفع ويظهر للسطح... وهم خائفون جداً من الشك.

كل شخص يرغب بالقناعة المؤكدة، لماذا؟ لأن التأكيد يعطي الأمان والضمان والثقة.. الشك يجعلك ترتجف.

لا بد للحقيقة أن تصنع شكاً هائلاً داخلك.. ما لم يدمّر الشك تلك القناعات المزيفة التي تحملها، فلا مجال للوصول إلى القناعة واليقين الحقيقي الذي يقينِ... اليقين الحقّ ليس معتقد رخيص، بل هو ناتج عن اختبار وإدراك ذاتي.

 

الحقيقة ليست ضد النبي أو المسيح، لكنها حتماً ضد الأديان المنظمة التي صنعها تجار الدين باسمهم...

 

الحقيقة ستعمل مجدداً نفس العمل الذي عمله النبي والمسيح وبوذا وكريشنا.. طبعاً ليس بنفس اللغة القديمة لأنها حقيقة حية تخاطب الناس الأحياء اليوم.. كيف يمكن أن أكتب لكم بالآرامية أو اللغة الفصحى القديمة بلا تنقيط التي تحتاج عشرة قواميس لتفهمها؟

 

الحقيقة تتكلم مع الناس بلغتهم دوماً.. ولا بد أن تكون علمية ومنطقية أكثر من التاريخ القديم.. حتى لو كان الهدف هو تجاوز المنطق والفكر إلى اللافكر والسحر والسرّ، لكن هناك حاجة لإيصالك إلى قمة التطرف في المنطق بدايةً، وفقط من هناك يمكن أن تقفز إلى اللامنطق واللافكر واللامكان واللازمان... لتعيش فطرتك يا إنسان.

 

أضيفت في:20-6-2015... في قلب الله> الله و الألوهية
.... إذا وجدت أن الموضوع مفيد لك، أرجو منك دعم الموقع

 

 

© جميع الحقوق محفوظة.. موقع علاء السيد