التأمل ومعرفة النفس والمسؤولية تجاه العالم
قرأت هذه اليوم وأنا في الحديقة... فيها شيء عن الحساسية والمسؤولية، وفيها سر من
أسرار الصيام والتسليم للكون لمن يريد.. أحببت أن أشارككم بترجمتها كما هي..
يا
أوشو..
كلما تعمقتُ أكثر في التأمل،
شعرتُ بمسؤولية أكثر عن نفسي وعن الحالة التي يعيشها العالم...
كيف يمكن هذا؟
...هذا نفس الشيء وطبيعي أن يحدث.. من عرف نفسه عرف ربه وعرف العالم الأكبر... كلما
أصبحتَ نفسك أكثر، ستشعر بمسؤولية أكثر تجاه العالم، لأنك تصبح بذلك متصلاُ أكثر،
تصبح جزءاً من هذا العالم ولا يوجد أي انفصال.
عندما تكون نفسك بصدق وبحق، هذا يعني مسؤولية هائلة، لكنها ليست حملاً أو عبئاً..
إنه احتفال بأنك تقدر على فعل شيء لأجل الحياة والوجود.
الله أو الوجود قد فعل الكثير لأجلك، ولا يوجد أي طريقة لدفع ذلك الدَّين.. لكن
يمكننا فعل شيء ما.. شيء سيكون صغيراً جداً بالمقارنة مع ما أعطتنا إياه الحياة،
لكنه سيُظهر الامتنان عندنا.. ليس الموضوع هل هو شيء كبير أم صغير، بل هو أن كل عمل
عبادة، وسيكون صلاةً وامتنان وحمد للحياة من كل قلوبنا.
نعم، سيحدث ذلك.. كلما أصبحتَ نفسك، ستشعر بمسؤوليات أكثر لم تشعر بها من قبل.
لذلك أوصى النبي الحبيب باحترام ومحبة الأرض والطبيعة، وإماطة الأذى عن الطريق هو
عبادة، من شدة إحساسه ومسؤوليته تجاه الوجود.
تذكرتُ شيئاً عن مهافيرا، وهو أهم فلاسفة وحكماء اليانيّة... كان يسير من قرية إلى
أخرى مع تلميذه المقرّب جوشالاك... وهذا كان السؤال الذي يتناقشان عنه: أصرّ
مهافيرا: "مسؤوليتك تجاه الوجود، تُظهر كم أنت حققتَ من حقيقة ذاتك.. لا يمكننا
رؤية حقيقة ذاتك الأصلية، لكن يمكننا رؤية مسؤوليتك".
بينما كانا يسيران، مروا قرب نبتة صغيرة.. وجوشالاك هو رجل منطق، سحب النبتة ورماها
بعيداً. كانت نبتة صغيرة وجذورها صغيرة.
قال مهافيرا: "هذه عدم مسؤولية.. لكن لا يمكنك فعل أي شيء ضد الوجود.. يمكنك أن
تحاول، لكنه سيعود عليك".
قال جوشالاك: "ماذا يمكن للوجود أن يفعل لي؟؟ لقد اقتلعتُ هذه النبتة، والآن لا
يقدر الوجود أن يعيدها إلى الحياة".
ضحك مهافيرا... وتابعا المسير إلى القرية، كانا يتسولان الطعام.. بعد حصولهم عليه،
عادوا من نفس الطريق وكانت هنا المفاجأة: كانت النبتة حية ومزروعة من جديد!
بينما كانوا في القرية، بدأت السماء تمطر، وبمساعدة المطر عادت جذور النبتة إلى
التربة.. كانت جذوراً صغيرة، والرياح ساعدت النبتة على الوقوف من جديد مثلما كانت.
قال مهافيرا: "انظر إلى النبتة... لقد أخبرتك أنه لا يمكنك فعل أي شيء ضد الوجود..
يمكنك أن تحاول، لكنه سيعود عليك، لأن ذلك سيستمر بفصلك عن الوجود.. لن يجعلك أقرب
منه أبداً.
فقط انظر للنبتة... لم يقدر أي أحد على تخيل حدوث هذا، أن المطر والرياح ستنجح
بإعادة زراعة النبتة وإعادتها للحياة"
هذه النبتة تبدو شيئاً صغيراً بالنسبة لنا، لكنها جزء من كون فسيح غير محدود القوة
والقدرة.
قال مهافيرا لجوشالاك: "من هذه اللحظة سنفترق وكل واحد يسير في طريق... لا يمكن أن
أسمح لشخص ضد الوجود ولا يشعر بالمسؤولية بأن يعيش معي".
كل فلسفة مهافيرا عن اللاعنف، يمكن التعبير عنها بشكل أفضل كفلسفة الاحترام للوجود
والحياة.. اللاعنف هو ببساطة جزء من ذلك.
سوف يستمر ذلك بالحدوث: كلما وجدتَ نفسك أكثر، ستجد نفسك مسؤولاً عن عدة أشياء لم
تهتم بها مطلقاً من قبل... ودع هذا يكون المعيار: كلما وجدتَ نفسك مسؤولاً أكثر عن
الناس والأشياء والوجود، يمكنك أن تطمئن أكثر بأنك على الطريق الصحيح.
أحد البروفسورات في جامعتي، د.بيهاريداس.. كان رجلاً كبيراً بالعمر، عاش كل حياته
وحيداً لأنه كان مكتفياً وقانعاً جداً، وفرحاً جداً بنفسه لدرجة لم يحتج فيها أي
أحد.
كان رئيس القسم في الجامعة، لذلك عنده بيت كبير مستقل، يعيش فيه لوحده.. وبعد أن
تعرفنا على بعضنا البعض، أصبح ودوداً كثيراً تجاهي مثل الأب.
قال: "لا حاجة لك لأن تسكن في سكن طلاب الجامعة الصغير.. يمكنك القدوم والعيش معي..
لقد عشتُ لوحدي طوال حياتي".
اعتاد البروفسور على عزف موسيقى السيتار، ربما أفضل من أي عازف آخر سمعتُ به، وقد
سمعتُ أفضل العازفين على السيتار... لكنه لم يعزف لأجل الناس، كان يعزف فقط لأنه
يفرح بالعزف.
وكان توقيت عزفه غريباً لا أحد يتوقع ذلك... كل ليلة الساعة 3 فجراً ينهض ليعزف
السيتار... وكان يعزف طوال سبعين سنة..
ظهرت الصعوبة منذ اليوم الأول، لأنني اعتدتُ على القراءة حتى الساعة الثالثة،
وبعدها أذهب للنوم... وذلك كان وقت استيقاظه وعزفه.
وكان ذلك إزعاجاً لنا نحن الاثنين.. لأنني أحببت قراءة الأشياء التي أحبها، ليس
بصمت بل بصوت عالي.. عندما تكون تقرأ بعينيك فقط، هناك اتصال جزئي فحسب... لكنك
عندما تقرأ الشعر بصوت عالي ستكون مشتركاً وشاعراً به تلك اللحظة وستصبح أنت
الشاعر.. ستنسى أنه شعر شخص آخر وسيصبح جزءاً من دمك ولب عظامك.
طبعاً كان صعباً عليه النوم... وعندما كنتُ أذهب للنوم الساعة الثالثة كان صعباً
علي النوم أيضاً.. فهو في الغرفة المجاورة بدأ يعزف أدواته الوترية والكهربائية من
غيتار وسيتار وغيرها.. بعد يومين تعبنا كثيراً.
قال لي البروفسور: "أنت ستعيش في هذا المنزل، وأنا راحل!"
قلت: "لا حاجة لأن ترحل.. وإلى أين ستذهب؟ أنا عندي على الأقل سكن الطلاب، لذلك
سأرحل أنا".
لكنه قال: "لا يمكنني أن أقول لك ارحل.. فأنا أحبك وأحب حضورك هنا.. لكن عاداتنا
خطيرة لكل منا.... أنا لم أتدخل مطلقاً بحياة أي شخص، لأنه لم يسكن أي شخص معي حتى
أتدخل به... وأنا أعرفك، أنت أيضاً لن تتدخل في حياتي... لكن هذا سيقتلنا نحن
الاثنين!
أنت لن تقول: غيّر توقيت عزفك... وأنا لا أستطيع طلب الرحيل منك، لذلك قلت أنني أنا
سأرحل، وأنت ستعيش هنا".
أصرّيت عليه: "لا يمكني العيش في هذا البيت... حالما ترحل أنت، فلن تسمح لي الجامعة
بالبقاء هنا.. هذا البيت مخصص لك أنت.. وأنا يجب أن أعود إلى سكني"... فأتى والدموع
تملأ عينيه ليعيدني إلى السكن.
تذكرت ذلك الرجل الآن لأنني لم أقابل أي شخص في حاتي، عنده كل هذه المسؤولية
والحساسية... كان حتى إذا اصطدم بالكرسي بالخطأ يعتذر منها.. يعتذر من
الكرسي........ قلت له: "د. بيهاريداس هذا كثير جداً!"
قال: "هذا ما أشعر به حقاً.. لقد ضربتُ تلك الكرسي المسكينة.. وهي لا تقدر على
الكلام، وإلا لكانت غاضبة.. وهي جزء من هذا الكون الكامل، وقد خدمتني، وأنا لم أكن
ودوداً تجاهها، اصطدمت بها وضربتها.. عليّ أن أعتذر".
الناس في الجامعة اعتقدوا أنه مجنون... رجل يطلب السماح من كرسي في هذا العالم، لا
يمكن أن يعتبروه عاقلاً.. لقد راقبته عن قرب، لقد كان من أعقل الناس.. لكن مسؤوليته
هائلة.
لم يقدر أن يقول لي، أن ذلك كان بيته...
كان ممكناً أن يقول لي: "يمكنك أن تقرأ بصمت"... أو "يمكنك القراءة في وقت آخر"..
أو "يمكنك القراءة بينما أنا أعزف الموسيقى".... لكنه لم يقل ذلك... وإلا كان
الموضوع سينحل بسهولة، وهذا ما يفعله كل الناس الآخرين في العالم.... لكن حساسية
الرجل واحترامه العميق للآخر... حتى احترامه للأشياء كان مطلقاً.
نظر الناس إلى سلوكه وفكروا: "لا بد أنه ليس في حالة عقلية صحيحة".
لكن لم يهتم أي شخص أو يفكر بأن الحالة العقلية الصحيحة فعلاً تجعل الناس مسؤولين،
مسؤولين جداً لدرجة أنهم يظهرون للآخرين كالمجانين!
كمثال، نام مهافيرا طوال حياته على جنب واحد... لم يكن يغيّر الجنب الذي ينام عليه
حتى في الليل... وعندما سألوه عن السبب قال "لأنني أعيش كل حياتي دون ثياب، لا
أمتلك شيئاً، وأنام على الأرض العارية... إذا غيرتُ جنب نومي، ربما أقتل نملة أو
حشرة صغيرة ما، وأنا لا يمكنني فعل ذلك".... كانت مسؤوليته تجاه الأشياء الصغيرة
جداً تُظهر ببساطة اندماجه وتوحّده مع الوجود.
طريقته في تسول الطعام ستشرح لك ماذا أعني... لم يقم أي شخص في أي مكان آخر من
العالم بالتسول مثل تلك الطريقة... ثقة هائلة جداً بالوجود.. ربما الحلاج فقط عاش
مثلها.
كان في الصباح بعد القيام بتأملاته، يتصوّر في ذهنه ما هو الشرط أو الحالة التي
سيتلقى فيها طعام اليوم... وفي بعض الأوقات، كان يمضي ثلاثون يوم دون أن يقدر على
تناول الطعام لأن الشرط الخاص الذي كان قد تصوّره لم يتحقق.
وأشياء غريبة جداً... مثلاً، يفكر مرةً أنه سيقبل الطعام فقط إذا كانت امرأة في ذلك
البيت الذي يتسول منه، ستخرج من البيت ولا يزال طفلها الرضيع يرضع من صدرها.. عندها
فقط سيقبل الطعام منها، وإلا يعتبر ذلك اليوم قد مضى، وسيحاول من جديد في اليوم
التالي!
استمر تلامذته يقولون له: "هذا غريب جداً! لقد كان هناك زاهدون عظماء دائماً....
ويمكنك أن تصوم قدر ما تشاء وتلك ليست مشكلة".
أجاب: "هذا ليس موضوع صيام.. أنا أترك وأسلّم الموضوع للوجود، وأنا أضع شرطاً بحيث
يمكنني معرفة ما إذا كان الوجود يريدني أن آكل اليوم أم لا.... هذا شيء بيني وبين
الوجود... إذا لم يتحقق الشرط، فهذا ببساطة يعني أن الوجود يريدني أن أصوم.. هذا
ليس صيامي أنا، بل ببساطة هو الكون لا يريدني أن آكل اليوم، وحكمة الكون دائماً
أكبر منا جميعاً".
وفي بعض الأوقات، كانت شروط غريبة جداً تتحقق، ولم يكن أحد يتخيل أنها ممكنة
الحدوث.. كمثال عنها، مرةً بعد ثلاثة عشر يوم صيام وجوع، استمر بالشرط نفسه بإصرار،
وإذا لم يتحقق الشرط لم يكن ليغيّر الشرط.. كان يغير الشرط فقط عندما يتحقق، عندها
سيضع الشرط التالي.
كان الشرط وقتها، أن أميرة وليس أي امرأة عادية، بل أميرة عظيمة، هناك سلاسل حول
قدميها وقيود في يديها، إذا قدّمت له الطعام سيقبله... والآن، هذا طلب لشيء عجيب
غير معقول... أولاً، إذا كانت أميرة فلماذا ستكون مقيدة بالسلاسل؟ وإذا كانت مقيدة
اليدين والقدمين سوف تكون في السجن! قد تكون أميرة لكنها لن تقدر على تقديم الطعام.
لكن حدث فعلاً في أحد الأيام، كان أحد الملوك غاضباً جداً على ابنته، واسمها
تشاندانا، وبسبب غضبه أمر بتقييد يديها وقدميها بالسلاسل 24 ساعة.. لم يضعها في
السجن لكنها بقيت حرة في البيت.
وعندما أتى مهافيرا... وذلك كان بالأصل هو الجدل الذي سبب كل المشكلة: أرادت
الأميرة تقديم الطعام لمهافيرا، لأنها أحبت الرجل وطريقة تفكيره، وكان والدها الملك
ضد ذلك بشدة... لذلك قام بتقييدها، لكي لا تقدر على الخروج من البيت بتلك الحالة
لأن ذلك سيسبب لها إحراجاً كبيراً.
عندما أتى مهافيرا، وأتى مع آلاف التلاميذ... لكنها خرجت من البيت مع الطعام، ولم
يستطع أولئك الآلاف تصديق عيونهم.
لقد سألوه في ذلك اليوم تحديداً بعد 13 يوم صيام أصروا: "مهافيرا، نريد أن نعرف ما
هو الشرط؟؟ سوف لن نقول لأي أحد، نحن فقط نريد رؤية هل هناك أي معنى للشروط التي
تضعها؟ هل الوجود رحيم كفاية وهل هو فعلاً يهتم لهذه الدرجة؟ هل يبالي بالأساس بك؟
رجاء فقط مرةً واحدة، نريد أن نعرف: ما هو الشرط؟"
وأخبرهم عن الشرط..
قالوا: "يا لطيف!! هذا شرط مستحيل جداً! لن يتحقق أبداً"
قال مهافيرا: "هذا يعني ببساطة أن الوجود لا يريدني... وأنا ليس عندي أي شكوى، ربما
يكون عملي قد اكتمل هنا، وأنا مجرد عبء على الأرض"... لكن الشرط تحقق.
هذه الثقة الهائلة بالحياة والوجود... هذه الثقة التي لا تتزعزع...
ستأتي إليك عندما تبدأ بحمل المسؤوليات...
ومع ازدياد شعورك بالمسؤولية تجاه الأشياء الصغيرة حولك،
يستمر الوجود بالتجاوب والجَود بألف طريقة وطريقة،
ولن تكون خاسراً أبداً....
أضيفت في:27-6-2015... في قلب الله> يد الله مع الجماعة .... إذا وجدت أن الموضوع مفيد لك، أرجو منك دعم الموقع
|