<<<< >>>>

حين تعجز اللغة وتموت الكلمات

هي ليست كلاماً في العشق... ولا أشعاراً بين الحبيب ومحبوبه...

هي ليست لحظات من الرومانسية الزائلة... أو إشتياقاً مؤقتاً للمحبوب

هي ليست علاقة حب مشروط تتأرجح بين قوة وضعف تبعاً لمردوداتها

 

فما هي إذا؟!!

 

هي حالة... تفوق الوصف وتعجز بالتعبير عنها الكلمات! حالة تصل فيها للتلاشي والإنفصال عن ماهيتك للتتبخر من نفسك ولتندمج وتذوب في المحبوب... فأنت الآن لست بأنت.. أنت هو.. وكل مافيك يموت به ليحيا لأجله... ليصبح الموت فيه هو الوسيلة الوحيدة الممكنة للعيش... هي حالة من الإنتحار اللذيذ للأنا.. حالة من فقدان معنى الوجود بعيداً عن المحبوب..

 

هناك حيث لا وجود لكلام يعبر.. ولا أشعاراً تترجم خلجات القلب.. ولا رقصاً يصور فرحك بهذا الحبيب أو إحتفالك به.. فما لك إلا أن تعيش نشوة هذا الشعور وتذوب فيه كما تذوب قطرة الماء في المحيط..

 

إنها الصوفية...

 

لن تجد لها وصفاً في القواميس ليترجم معانيها ولا كلاماً لغوياً ليعبر عنها..

 

بإمكانك القول بأنك تحب ولكن ليس باستطاعتك أن تعبر عن ذلك الشعور بحروف أو كلمات.. ولكي أفهم ما تحس أنت به يجب أن أعيش حالة مماثلة لتلك التجربة..

 

فلنفهم ما هي حقيقة ذلك الشعور علينا إختباره!!! فالحبيب هنا هو الله وحب الله هو فوق وأعلي من أي كلمة أو وصف....

 

 

و بالحديث عن حب الله لابد من أن نعرج على ما هو معروف بـ"الخوف من الله".. مفهوم بذر في أذهاننا منذ الصغر لينمو ويكبر ليغدو منهاجاً سلوكياً ومعتقداً دينياً أساسياً لنيل رضا الله والجنة من بعدها!!!.. كما وإنك لن تنال الجنة إلا بالخوف منه وليرضى عنك لابد من تراه على أنه المنتقم.. الجبار.. القهار.. المذل وكأن السلام أو الرحمن الرحيم أو الرؤوف أو الودود أو اللطيف هن لسن من صفاته!!!! ونحن بدورنا عشنا هذا الخوف على أتم صوره حتى أصبح محوراً لحياتنا والهاجس المسيطر عليها.. الخوف من الله.. الخوف من جهنم.. الخوف من الحساب.. الخوف من العقاب... الخوف.. الخوف.. الخوف.. ثم الخوف..

 

 

كيف لإنسان على هذا المستوى من الخوف والإضطراب أن يحب الله؟!!!! بل كيف له أن يحب بشراً مثله وحتى أن يحب نفسه؟!!!

 

هنا لابد من التطرق لحقيقتان مسلّم بهما: لن يولد الحب في وسط ملؤه الخوف... بينما في حال وجود الحب لن ترى وجودا لأي خوف.. فعندما تحب شخصاً يختفي الخوف وعندما تخاف شيئاً يختفي بوقتها الحب!

 

قد يصل بك المطاف لأن تكره ما تخافه، ولكنك لن تستطيع أن تحبه يوماً!

 

مع كل ذلك الخوف لن تستطيع أن تحب الله ولن تستيطع أن تلمس ذلك النعيم وتلك النشوه وأنت في خضم ذلك الشعور..

 

 

مهما تكلمنا عن الصوفية فلن نوفيها حق الشرح والتعبير كتجربة تختبر وتعاش ولكن سنتكلم هنا عن معنى الكلمة نفسها وأصلها والذي بدوره سيوجه الضوء على بعض من زوايا حالة العشق تلك...

 

 

لعقود عديدة كانت الصوفية كواقع يختبر، عاشه كل ممن أحب الله من الأنبياء والأتقياء ولم يكن لها مسمى، حتى أطلق عليها هذا الإسم حديثاً.

 

فالصوفية ككلمة لها أصول مختلفة ولكنها تجتمع جميعاً لتصب بنفس المحيط.. كل من هذه الأصول فيه جمالية خاصة ومعنى فريد..

 

 

- فعند العرب مثلاً، كان أصل لفظ الصوفية أو التصوف مأخوذاً من كلمة "صوف"... شيئاً يدعو للغرابة بإتخاذ الصوف رمزا لهاً!!! مما يدعو للتساؤل عن السبب وراء ذلك..

 

أحد الإجابات كانت بأن كان من عادة الصوفيين إتخاذ الصوف ملبساً لهم... وهذا صحيح... ولكن لماذا؟!

 

ورد في القرآن الكريم بأن نبي الله موسى(عليه السلام) عندما ذهب لوادي طوى ليكلم الله كان مرتدياً لرداء من الصوف!!! هي ليست صدفة، فبهذا حكمة وعبرة كبيرة..

 

الصوف هو ما يغطي جلد معظم الحيوانات.. الحيوان مخلوق فطري بريء، متجرد من أي غايات أو أحقاد او أفكار أو فلسفيات، خلق على فطرته وعاش البراءة التي تحملها تلك الفطرة فاتحد مع الطبيعة وتعايش معها وانسجم ليكون جزءاً من الكل ومكملاً لهذا الكل.

 

فلباس الصوف هو لباس البراءة.. لباس التوحد مع الطبيعة والكون... لباس التواضع.. بعيداً عن التحضر والأعراف والتقاليد..

 

فكون المرء بهذا الحال ماله إلا بأن يرتقي بروحه ليصبح قديساً ويتوقف فكره ليحل محله وعياً كونياً وليعيش بالتالي حالة من الإتساق والتوحد مع هذا الكون.. في هذه المرحلة يختفي التقييم والتصنيف للأمور، فلا وجود لجيد ولا لسيء.. كل ما موجود هو قبول مطلق وإستسلام! وهذه هي طبيعة الحيوان.

 

و هذا هو حال الصوفي، فالصوفي لا يعرف الخيارات، كلما يحدث له يتقبله كهبة من الله ونعمة لتذكر وتشكر... هو يعيش اللحضة برضا وتسليم، يعيشها بحينها وحيثها، لا ينظر لماض فات ولا لمستقبل آت، لحظته تعني "الآن هنا"..

 

سئل أويس بن عامر "كيف أصبحت؟" قال:" أصبحت أحمد الله عز وجل" فقال الرجل" كيف الزمان عليك؟" قال:" كيف الزمان على رجل إن أصبح ظنّ أنه لا يمسي، وإن أمسى ظنّ أنه لا يصبح، فمبشر بالجنة أو مبشر بالنار ".. وهذا ما يراد به القبول والتسليم المطلق.. هو يعيش لحظته فقط، لايدري ما بعدها، مستسلماً وراض عن ما سيبعثه الله فيها "لتكن مشيئك". ما قاله أويس لربما يقال من قبل الكثيرين، ولكن كم منهم عناها وعاشها كما فعل هو!!!!

 

 

و بالتالي أنت ترى براءة الحيوانات تتلألأ في عينا الصوفي وتنعكس على كل تعابير جسده.. هذا البريق وهذه السعادة لا يعرفها إلا الحيوانات والأشجار والزهور وغيرها من مخلوقات الله التي بقيت على فطرتها...

 

هذا هو الأصل الأول لكلمة الصوفية..

 

               

- الأصل الثاني للكلمة هو من "Sufa" بمعنى الصفاء والنقاء... فعندما تعيش حياة محورها التسليم والإستسلام حينها تفتح الأبواب للنقاء ليتغلغل في ثناياك... وهذا النقاء لا يعني المثالية أو الأخلاق الفضيلة أو الجانب الجيد من كل شيء أو أن تكون إنسانا صالحا لا تقوم إلا بما هو حميد وصحيح، وإنما نقاءاً أبدياً من أي أفكار أو أحكام سواءاً جيدة أو سيئة.. فالنقاء هو السمو فوق أي فكرة أو سؤال أو حكم... هو الثقة المطلقة بالحياة وبالوجود وما هو الوجود إلا الله متمثلاً بخلقه.

 

فالصوفي لا يستخدم فكره فهو موصول بالوعي الكوني والذي يثق في كل الثقة.. فالأفكار والأحكام إن وجدت في العقل تشوبه بما ترسّب فيها من ترهات المجتمج والأهل ورجال الدين، وحتى الأفكار المتعلقه بالله وماهيته، فالله بالنسبه للصوفي ليس ذلك الإله الجالس على عرشه في أعلى الجنة، وإنما هو في كل مكان وملئ كل مكان، هو الوجود بأجمعه متمثلاً بما فيه، وما الله إلا إسماً لهذا الوجود.

 

 ف Sufa بالتالي هي الصفاء ولكن من باب أن يطهر الفكر ويصفى من أى فكرة أو أي شيئ آخر، لدرجة أن يختفي هذا الفكر من الوجود، فلا فكر ولا تفكير ولا أفكار..

 

 

- إحتمالاً ثالثاً للأسم ولا يقل جمالاً بفحواه عن سابقيه، وهو كلمة "Sufia" بمعنى صديق الله المختار من قبله!!!!

 

نعم... مختار من قبل الله... ولك أن تتخيل عظمة هذه المرتبة وسموها....

 

يقول الصوفيون بأنك لن تبادر بالبحث عن الله حتى يختارك هو... فكيف لك أن تبحث عن الله إذا لم يبدأ هو بالبحث عنك... فكل المبادرات هي من جانبه، وهو من سيختار في البداية وأنت من سيعيش التوق للشعور بهذه النعمة ومبادلتها بأحلى وألذ مراحل الحب...

 

الصوفيون وحدهم من قالها بوضوح بأن الله هو من يختار عباده... مجرد عطشك لله هو نعمة لا تقدر ولا تثمن، فما بالك بأن تكون مختاراً من قبله!!!

 

ندائه الأول يكون عبر عقلك الباطن، ربما لن تعقله أو تفهم ما هية هذا النداء الإلهي الرقيق الصامت، ماهو؟ من أين يأتي؟ فتعتقد بأنه منك أنت، ولكن الحقيقية ليست بذلك... فالإنسان لا يستطيع أخذ المبادرة في هذا... الإنسان بطبيعته ضعيف لا حول له ولاقوة إلا بما أنعم الله عليه، فلن يستطيع أن يبدأ كذا رحلة من دون عون أو قوة خارجية تدفعه بإتجاه هدف مجهول كهذا... بإمكاننا إختيار أهدافاً تقع ضمن حدود معرفتنا، كاختيار شريكة أو شريك حياتنا أو إختيار منزلاً جميلاً نرى فيه مأوى وسكينة لنا ولعائلتنا... وغيرها مما يعقله العقل البشري ويقع ضمن إستيعابه.... ولكن أن نختار الله!!!! أنها حالة تفوق قدراتنا البشريه، حسية كانت أم عقلية فالله ليس شيئاً يوصف بالبعد ولا بالحركة ولا بالسكون، إنه فوق الوصف والتخيل والإحساس والإدراك..

 

 

ولكن في نفس الوقت، أنت لست مجهولاً بالنسبة لخالقك، بإستطاعته إختيارك حين يشاء، وقتها ستعيش العطش ولذة ذلك العطش في البحث عنه وهنا يكمن الدليل على إختياره لك صديقاً!

 

 

-الإحتمال الرابع بأن كلمة الصوفية مأخوذة من "Sufiya" وهي كلمة يونانية الأصل.. وتعني الحكــــمة.. والحكمة هنا لا تعني المعرفة المنقولة عن الكتب أو الغير،فهذة معرفة مكتسبة، مصدرها خارجي والتصديق بها مرهون بمصداقية هذا المصدر.. بينما الحكمة تنبع من الداخل فأنت تستنير بما شهدته "أشهد".. أنت بنفسك من شهد تلك الحقيقة.. أنت من شهد الله.. أنت من إختبرت ذلك الشعور العظيم.. أنت من عاش هذه التجربة.. فهي الأن ليست معرفة، بل هي تجربتك الشخصية.

 

 

- الإحتمال الأخير لأصل الكلمة هو "Ain Sof" وتعني اللانهائية المطلقة، فهي البحث عن ماهو فوق الإدراك البشري، عن ما لم يحويه مكان ولا زمان، عن الوجود واللاوجود المطلقين.

 

 

 

كلها معان جميلة لتلك الكلمة وكل منها يعبر عن جانب من جوانب حالة الحب التي يعيشها الصوفي.. من برائته لرضاه وإستسلامه وتسليمه لمشيئة بارئه، لشهادته المطلقة لحبه له... لحكمته وشهادته.. لبحثه وتوقه.. ولغيرها الكثير مما يختبر ويشهده وما لايمكن لكلمات أن تنقله ولا لتعابير أن تصفه.   

 

 

 

من وحي "Sufis: The People of The Path"

"A Rare Kind of Magic"CH1

 

OSHO

أضيفت في باب:17-1-2009... > من قلب الأحباب
.... إذا وجدت أن الموضوع مفيد لك، أرجو منك دعم الموقع

© جميع الحقوق محفوظة.. موقع علاء السيد