<<<< >>>>

مريم المجدلية... خمرة جبران

اجتماعها لأول مرة بيسوع...

رأيته أول مرة في شهر يونيو (حزيران). كان يمشي بين الزروع عندما مررت مع جواري، وكان وحيداً. وكان انتظام وقع خطواته على الأرض مختلفاً عن جميع الرجال، وحركة جسمه لم أر مثلها قط في حياتي. إن الرجال لا يمشون كما مشى هو. وإلى هذه الساعة لا أدري إذا كان يسير بسرعة أو ببطء.

وكانت جواري يشرن إليه بأصابعهن ويتهامسن فيما بينهن، والحياء يخيم فوقهن. أما أنا فوقفت لحظة ورفعت يدي لأحييه. ولكنه لم يلتفت، ولم ينظر إلي. فأبغضته جداً، وشعرت بأن الدم يجمد في عروقي من شدة الغيظ، وفارقتني حرارة جسدي حتى صرت باردة, كأنما أنا في عاصفة من الثلج هوجاء، وكنت أرتجف بكليتي..

 

و في تلك الليلة رأيته في منامي، وقد أخبروني فيما بعد أنني كنت أصرخ صراخاً شديداً في نومي، ولم أعرف طعم الراحة في فراشي تلك الليلة.

 

ثم رأيته ثانية في شهر أغسطس (آب)، وكان هادئا كأنه تمثال منحوت من الحجارة، كالأنصاب التي رأيتها قبل في أنطاكية وغيرها من مدن الشمال. في تلك الدقيقة جاءت خادمتي المصرية وقالت لي: إن ذلك الرجل هو هنا ثانية، وهو جالس هنالك أمام بستانك.. فحدقت إليه طويلاً...

 

فارتعشت نفسي في أعماقي لأنه كان جميلاً.

 كان جسمه فريداً، وقد تناسبت أعضاؤه وحتى خيل إلي أن كلاً منها مسحوراً بحب رفيقه.  

 

و في الحال لبست أفخر أثوابي الدمشقية، وتركت بيتي وسرت إليه، هل دفعتني وحدتي أم طيب شذاه حملني اليه؟ وهل مجاعة عيني الراغبة في الجمال، أم جماله الذي كان يفتش النور في عيني؟... إنني حتى الساعة لا أعلم

 

مشيت إليه بأثوابي المعطرة وحذائي الذهبي، الذي أعطانيه القائد الروماني، نعم ذلك الحذاء بعينه!! وعندما وصلت إليه قلت له: أنعم صباحاً، فقال: نعمت صباحاً يا ميريام..

 

ثمّ نظر إلي فرأت فيّ عيناه السوداوان ما لم يره رجل قبله، فشعرت فجأة كأنني عارية وخجلت من ذاتي... بيد أنه لم يقل لي سوى: نعمت صباحاً

 

 

حينئذ قلت له: أفلا تريد أن تدخل إلى بيتي؟

 

فقال: أما أنا الآن في بيتك؟؟؟

 

إنني لا أعلم ما عناه آنئذ لكنني أعلم الآن.. 

 

فقلت له: أفلا تريد أن تشرب الخمر وتكسر الخبز معي..؟؟؟

 

فأجاب: نعم يا ميريام، ولكن ليس الآن.

 

ليس الآن, ليس الآن، هكذا قال لي، وكان صوت البحر في هاتين الكلمتين، وصوت الريح والأشجار. وعندما قالهما لي تكلمت الحياة مع الموت

 

فاذكر يا صاح ولا تنس أنني كنت ميتة. فقد كنت امرأة طلقت نفسها. وكنت أعيش بعيدة عن الذات التي تراها الآن. فقد اختصصت بجميع الرجال، ولم أختص بأحد، فكانوا يدعونني عاهرة، وامرأة فيها سبع شياطين، كنت ملعونة من الجميع، محسودة من الجميع. ولكن عندما نظر فجر عينيه إلى عينيّ غابت جميع كواكب ليلي وصرت ميريام، ميريام فقط، امرأة ضاعت عن جميع الأرض التي عرفتها ووجدت نفسها في أماكن جديدة.. ثم قلت له ثانية............   هلمّ إلى بيتي وشاركني بخمرتي وخبزي.

 

فقال: لماذا تلحّين على أن أكون ضيفك؟؟

 

فقلت له: أتوسل إليك أن تدخل إلى بيتي. وكان كل ما بي من السّماء يناجيه ويدعوه ويطلبه.

 

حينئذ نظر إليّ، فأشرقت ظهيرة عينيه على روحي، وقال: إنّ لك كثيرين من المحبين، بيد أنني أنا وحدي أحبك، فإن بقية الرجال يحبون أنفسهم في قربك، أما أنا فأحبك في نفسك. إن بقية الرجال ينظرون فيك إلى جمال يذوي قبل انتهاء سنيهم، أما الجمال الذي أراه أنا فيك فإنه لن يزول, وفي خريف أيامك لن يخاف ذلك الجمال أن ينظر إلى ذاته في مرآة، ولن يقدر أحد أن يعيبه.

 

أنا وحدي أحب ما لا يرى فيك..

 

ثمّ قال بصوت واطئ: امضي في  طريقك الآن. وإذا كانت هذه السّروة لك ولا تريدين أن أجلس في ظلها، فأنا أيضاً أسير في طريقي..

 

فتوسلت إليه بدموع قائلة: يا معلم، ادخل إلى بيتي. إن لدي بخوراً أحرقه أمامك وطستاً من الفضة لغسل قدميك. أنت غريب ولكنك لست بالغريب، لذلك أتضرع إليك أن تدخل إلى بيتي.. في تلك اللحظة وقف ونظر إليّ كما تنظر الفصول إلى الحقل وتبسّم وقال ثانية: إن جميع الرجال يحبونك لأجل ذواتهم أما أنا فأحبك لأجل ذاتك.

 

قال هذا وسار في طريقه.

 

ولكن ما من رجل مشى مشيته قط. هل ولدت في بستاني نسمة علوية ثمّ سارت إلى الشّرق؟ أم هل هي عاصفة هوجاء جاءت تزعزع كل شيء لترده إلى أسسه الأصلية؟؟

 

إنني لم أعلم، ولكن في ذلك اليوم ذبح غروب عينيه الوحش الذي كان فيّ، فصرت امرأة، صرت ميريام، مريم المجدلية

أضيفت في باب:12-2-2009... > من قلب الأحباب
.... إذا وجدت أن الموضوع مفيد لك، أرجو منك دعم الموقع

© جميع الحقوق محفوظة.. موقع علاء السيد