موقع علاء السيد... طباعة
<<<< >>>>

لا إله إلا الله...

لا إله إلا الله... هذا هو جوهر وأساس الصوفيّة وطُرقها، هذه هي البذرة التي نبتَت منها شجرة الصوفية.

عبارة بسيطة تشمل كل ما يوجد في الأديان:

هو الله ولا إله إلا هو

 

هذه الجملة تُوحّد الله مع الوجود، تجعل كلمة الإله، مرادفة لكلمة الوجود، الله كينونة كل ما هو كائن ومخلوق... وأنت كائن من المكوّن وأنت مخلوق من الخالق، كلنا من روح الله....

 

الله لا ينفصل عن خلقه، الخالق موجود في خَلقِه، ولا توجد أية ثنائية أو ازدواجية، ولا أي مسافة تفصل بينهما، لذلك كل ما تصادفه في حياتك هو الله.

 

الأشجار والأنهار والجبال، جميعها مظاهر لله وتجلّيات لوجوده.

 

أنت والناس الذين تحبهم، والناس الذين تكرههم، كلكم تجليات لله..

 

هذه الجملة الصغيرة تستطيع أن تغيّر حياتك. وتستطيع أن تغيّر نظرتك بكاملها إلى الحياة... تستطيع أن تغيّر العالم من الحرب إلى الحب... من الظلام إلى السلام.

في اللحظة التي يُدرك فيها المرء أن كل الأشياء شيء واحد، ينشأ الحب من تلقاء ذاته، والحب هو الصوفية.

 

الصوفية لا علاقة لها بالمعرفة. فكلّ اهتمامها ينصبّ على الحب، الحب والغرام والهيام وكيف تقع في حب الكلّية، كيف تتناغم مع المنظومة الكاملة للكون، كيف تصنع جسراً بين الخالق والمخلوق... كيف تذوب النقطة في المحيط... كيف تموت النفس في الروح...

 

إن ما يُدعى بـأديان العالم المنظَّـمة تُعلّم نوعاً من الازدواجية كأن الخالق مُنفصل عن الخَلق، الخالق أعلى من الخَلق، أن هناك عيباً ما في الخَلق، وأن علينا أن نتخلى عنه وننكره... كما قيل لي أنني وُلدت وخلقت في الخطيئة الأصيلة والعظيمة... أنني منذ الولادة وحتى الساعة لازلت بنظر هؤلاء المنظّرين بالدين خاطئاً والحساب على الباب... باب النار والعار والعذاب...

في الصوفية لا يوجد تخلّي، بل تجلّي.

لا يوجد أي شَجْب... بل كامل الحب.

 

وهذا ما نتذكّره معاً هنا... افرحوا وتهللوا.. الله محبة والمحبة هي الله...

طريقتي هي طريقة للتعرّف على الذات، لا نُكرانها. يقول جلال الدين الرومي:

 

إذا لم تتوحّد مع المعشوق... فالتمس ذلك!

و إذا  كنتَ  في  انسجام  معه...... فابتهج وتهللّ

وتذكّر أن الذّكر والذاكر والمذكور... هو الشكر والشاكر والمشكور

 

هذا اللقاء هو اجتماع صوفي...

أنتم صوفيو العهد الجديد، وأنا أشارككم هذه الحقيقة وهذه المحبة.

كلّنا معاً على طريق الرفيق الأعلى...

 

الصوفيون لديهم نوعان من الحب:

الأول يدعى العاطفة السطحية وتعني الحب العادي، الحب الفاتر المؤقت، الجزئي. والذي قد يوجد في لحظة ما، وقد يختفي في لحظة أخرى. ليس له أي عمق ولا مضمون.

قد تدعوه انفعالاً، لكنه ليس عاطفة عميقة.

ليس بشعلة تُحرقك من الداخل، ولا أنت تُولَع به، بل يبقى شيئاً تحت سيطرتك... وتعتقد أن هذا هو الحب النابع من القلب... لكنه مجرّد عاطفة من الفكر والجيب..

لن يستملكك، لن تفقد نفسك فيه، بل ستبقى أنت مسيطراً عليه.

 

النوع الثاني للحب، الحب الحقيقي، الحب الأصيل... وهو الذي يدعونه بـالعِشق، والذي يعني الحب الشديد.

الحب الذي يضيع المرء فيه... أي موت العاشق في المعشوق... كما تزول قطرة الندى في المحيط.

هذا هو الحب الذي يستولي على كامل حياتك، وتصبح مجنون هذا العشق.

 

 

سمعتُ أن المعلم الصوفي العظيم الشيخ فريد كان مرة على سطح المعبد الذي يختلي فيه وهو في حالة وَجْد...

 

هذا المعبد الصوفي يدعونه الزاوية. وهي المكان الذي يجتمع فيه الصوفيون بخلوة وبجَلوة مع التجلّي الإلهي...

 

إنها معبدٌ للحب، معبد للجنون، للنشوة المطلقة.

هذه هي الزاوية، لا إله يُعبَد إلا الحب، لا صلاة تُصلّى غير الحب.

لا يُدعى إلى الزاوية إلا مَن توحّد مع حبه واشتعل به، لا يُدعى إلا مَن هم على حافة الجنون..

 

كان الشيخ فريد على سطح الزاوية في حالة وجد...

 

الوجد هو اللحظة التي تنتهي فيها أنت ويتجلّى الله، لحظة تناغم مطلقة.

نافذةٌ تُفتح لك وترى السماء كلها، ولن تحجزك أسوار جسدك أو فكرك.

للحظة، يحدث فيها برقٌ خاطف، فيملؤك النور وتختفي العتمة...

الوجد هو الذهاب إلى الجنة للحظة، كلمحة من الحياة الأبدية، كومضة من الذات النورانيّة العليا.

إنها تأتي وتذهب، ولكن ببطء، تُنشئ نفسها وترسخ فيك.

 

ولكن أن تعرف الله ولو للحظة فقط، في ذلك الكثير من الجمال والبركة. حتى للحظة واحدة، أن تعرف بأنك لست منفصلاً عن الوجود، أنه ليس هناك أي أنا، أن كل الأشياء هي واحد --لا إله إلا الله-- حتى إذا عرفتَ هذا كتجربة عابرة سريعة، كنفَس يأتي ويذهب -- فمَع الوقت، ستصبح مُدركاً لها. صحيح أنها لم تعد موجودة، لكنها كانت موجودة هناك، وقد أنعشتك وجدّدتك، وأحيَتك من جديد... أفلا تتذكّر أنك من روح الله؟ أفلا تتذكرون؟ أفلا تُبصرون؟

 

كان الشيخ على سطح البيت في حالة وجد -- حالة توحّد مع الوجود.

 

وصادَفَ أنّه كان هناك مجموعة من الشباب يمرّون في زقاق قريب، يعزفون على الآلات الموسيقية ويغنّون.. كانوا ينشدون:

 

آه يا قلبي... لا نحيبَ في جوار المحبوب

ولا يوجد أي حرّاس على سطح أو باب أو نوافذ بيته...

أيها العاشق... يا وجدان الإنسان

إذا كنتَ جاهزاً لترى روحَك،

انهض وتعالَ الآن... فالباب مفتوح وأهلاً بالروح

 

لم يشعروا بالشيخ أبداً. لقد كانت قلوبهم الموحّدة تغنّي، حتى أنهم لم يدركوا ماذا كانوا يقولون أصلاً.

لكنها كانت مشاعر صوفية مُثيرة، انطلقت مع هذه الأغنية.

عندما سمعها الشيخ العاشق: إذا كنتَ جاهزاً لترى روحك، انهض وتعال الآن، فالباب مفتوح وأهلاً بالروح --وقد كان في حالة وجد وتوحّد، في حالة غامضة-- كانت نشوته عظيمة لدرجة أنه لم يكن موجوداً في تلك النشوة على الإطلاق، عندما سمع الشيخ هذه الدعوة، تملّكه شعور غريب، شيء من العالم الماورائي، وألقى بنفسه من السطح...

تقلّب ودارَ في الهواء، ثم وقع على الأرض... تقلّب باستسلام كامل كالورقة عندما تقع من الشجرة في مهب الريح والروح...

 

وعندما رأى الشبّان ما حصل، تركوا أدواتهم وغناءهم، تركوا حياتهم وكل الطرق التي كانوا يسلكونها، ودخلوا الزاوية، ودخلوا الصوفية والصفاء إلى عالم الصوفية والبقاء.

 

ماذا حصل لهؤلاء الشبان؟

لقد رأوا ولأول مرة في حياتهم النشوة، الوجد، الحب، الجنون في الله.

لأول مرة يمرّون برجل استطاع أن يغامر بحياته.

هذا هو العشق وهذا هو الاستسلام...

العشق هو حضورك لإحياء حياتك من أجل حبك... لموتك أنت في البقاء الأبدي...

العشق يعني أن قيمة الحب عندك أصبحت أعلى من قيمة الحياة كلها،

ولذلك قيل عن العشّاق أنهم مجانين، وقيل أنهم عميان، لكن لا يقول هذا إلا من لم ينظر بعيون الحب وأبعاد الأجساد...

 

المُفكّر  يُدين طُرُقَ الحب، لأنه خائف... لأنه لم يعرف بَعد أي بُعد أبعد من حدود الجسد.

 

الحب خطير جداً...

إتّباع طريق القلب فيه مخاطرة، لأن القلب ليس حسابياً وليس لديه أي منطق!  والشجاعة هي الطريق إلى المغامرة مع المجهول...

 

فقط تذكّر هذا الرجلَ المجنونَ العاشق، رامياً نفسه من سطح البيت لمجرّد سماعه أغنية:

إذا كنتَ جاهزاً لترى روحك، انهض وتعال الآن، فالباب مفتوح وأهلاً بالروح...

 

وقفزَ دون أي تردد، لم يتردّد ولو للحظة واحدة. هذا هو الجنون... والعقل المفكّر الذي يحسب باستمرار سيُدين هذا حتماً... العقل المفكّر لايتذكّر الذّكر بل يفكّر ويكفّر ويخاف من القبر...

 

لكن العاشق المجنون لم يتأذّى. كان سكراناً بالخمرة الإلهية ولم يدرك ماذا يحصل.

لم يصبه أي شيء، لأنه لم يكن موجوداً، كأن الله هو الذي قفز من خلاله... هذا هو الوجود بالموجود...

 

كان بحوزة الله، وكان منتشياً ومأخوذاً تماماً... مستسلماً لمشيئة الواحد الأحد.....

 

عندما رأوه يهبط من السطح، يدور في الهواء ويهبط...

لقد رأوا الكثير من الدراويش، والدراويش الذين يدورون باستمرار،

لكنهم ليسوا كهذا الرجل. وعندما وصل إلى الأرض كان بريئاً جداً وصامتاً، كانت فرحته كبيرة لدرجة أن مُجرّد رؤيته كانت كافية لجَعلهم يتركون طرقهم القديمة. فتركوا أدواتهم ودخلوا الزاوية وأصبحوا صوفيين... على طريق المصطفى... من لبس الصوف على الصفاء وتبع طريق المصطفى... أي من لبس التواضع.

 

وبهذه الطريقة أصبحتم صوفيين معي!

أنتم أيضاً قفزتُم من الأسطح!

 

لكي تُصبح مُريداً حرّاً كواحد من العشاق تحتاج إلى قفزة نوعية، إلى خطوة لم تكن بالحسبان، للمجانين فقط. لكن الله للمجانين فقط، أما أولئك الذين يحسبون فسيبقون جزءاً من السوق وعالم التجارة وعالم السوء...

التفكير المنطقي يُبقيك في الدنيا... دانياً عن كل دين وكل كفن وكل حق وكل بدن... لا تنسَ بأن علم الأبدان وعلم الأديان من حق كل إنسان...

 

عليك أن تكون في حالة وجد كبير يجعلك مستعدّاً للمجازفة بكل شيء. هذا الحب هو الذي يدعى بالعشق.

كلكم عرفتم المحبة، التي تدعى بالحب العادي، والتي هي عاطفة وشعور سطحي...

اليوم نحب وغداً نكره.... في يوم ما تحب شخصاً ما وتتهيّأ للموت من أجله، وفي يوم آخر تتهيأ لقتل الشخص نفسه..!

في لحظة ما تصبح لطيفاً وجميلاً، وفي لحظة أخرى تصبح فظاً وبشعاً بالنسبة للشخص نفسه... هل هذا الذي تشعر به حب أم مجرّد شعور بدون حب؟؟؟

 

هذا ليس بعِشق، العشق له عمق، أما هذا الحب فسطحي جداً.

هذا قناع فقط، هذا جزء من شخصيتك وطباعك... إنه تجارة في الحب... أي دعارة باسم الطهارة.

 

العشق، الحب الكبير لله، ليس من صفات شخصيتك، بل هو من الجوهر. يأتي من قلبك، ينشأ من أساس  وجودك ويغمرك...

هذا الحب ليس بأمرٍ منك بل أنت المأمور والمغمور بهذا الحب المعمور...

 

لقد أوجدَ الصوفيّون سُبلاً وطرقاً كثيرة لخَلق العشق. هذا هو سر الصوفية: كيف ترى العشق داخلك، كيف تحيا هياماً يمكّنك من ركوب أمواجه والوصول بك إلى المُطلق.. إلى الله.

 

 


 

يقال عن قصة مجنون ليلى أنها قصة صوفية، قصة حب عظيمة، لا تُقارن بأي قصة حب أخرى.

يوجد الكثير من هذه القصص في العالم، وتقريباً كل بلد له حكايات حب خاصة به. لكن لا شيء منها يقارن بقصة ليلى ومجنونها لأن لها رسالة صوفية في مضمونها... في أسرارها أسرار وفي أبعادها أبعاد... أبعد من أي بعد... إنه المدد والأبد...

 

ليست قصة عادية عن المحبة، إنها قصة عشق وحق...

 

يُقال عن المجنون أنه قرر في يوم من الأيام، بعد رؤيته لليلى، أنه قد رأى كل ما يستحق الرؤية في الحياة، فما فائدة أن يبقي عينيه مفتوحتين بعد الآن؟

و قرر أن يفتح عينيه فقط بحضور ليلى لرؤيتها، وإلا فسيبقى أعمى، لأنه لا يوجد أي شيء آخر في الدنيا يستحق النظر إليه.

 

ولم تحضر ليلى لعدّة أشهر – كان أهلها والمجتمع ضدّها-- وانتظر المجنون تحت الشجرة التي كانا يلتقيان في ظلها، وبقيَت عيونه مغلقة طوال الوقت.

 

مرّت الأيام، مرّت الأسابيع والشهور، ولم يفتح عينيه...

 

وتقول القصة أن الله قد رأفَ به وأشفق عليه، فقال له:

"أيها المجنون المسكين، افتح عينيك، أنا الله بذاته... لقد رأيتَ كل شيء في العالم، لكنّك لم ترني، انظر لمن يقف أمامك!"

 

لكن المجنون قال: "ابتعد عنّي! لقد حسمتُ أمري ألا أرى إلا ليلى، فلا شيء آخر يستحق الرؤية. قد تكون الله، ولكني لا أهتمّ، ارحَل من هنا الآن، لا تُفسد عليّ خلوتي."  

وماذا فعل الله؟

إن الله هو التواضع والرّأفة... هو أرحم الراحمين... وأعلم العالمين وهو كل الصفات وكل الحياة...

 

ردّ الله مذهولاً... "ماذا تقول؟ لم آتِ شخصياً إلى أي إنسان قبلك!!! المؤمنون والعباد يصلّون ويبحثون ويتدرّبون --حتى بعد كل ذلك، من الصعب جدّاً أن يراني أحدهم-- وقد جئتك بنفسي حتى دون أن تطلُبني، أتيتُك كهديّة وأنت ترفض؟!!"

 

و قال المجنون: "إذا كنتَ حقاً تريدني أن أراك، فتعالَ بهيئة ليلى، لأنني لا أستطيع أن أرى أي شيء آخر. حتى لو فتحتُ عينيّ لن أرى غيرها. إذا نظرتُ إلى الشجرة أرى ليلى هناك، أنظر للنجوم وأرى ليلى هناك، ليلى في قلبي، وقد امتلكته بكامله، وكل ما أرى، أراه عبر قلبي.

أنا آسف لأنني لا أستطيع، فلا يوجد في قلبي أي مُتّسع لأي شيء آخر، أرجو المعذرة، واذهَب عني، ولا تُفسد عليّ خلوتي."

 

هذا هو العشق وهذا هو حب الله للإنسان... هذا هو عشق المعشوق للعاشق... ورحمة الله للعباد...

 

هذا هو العشق، حتى الله، نعم الله، يمكن أن نعتذر منه... لأنه هو الوحيد والواحد الأحد الذي لا يرحم إلا هو... هو الرحمة... وهو الرحيم والرحمن للعاشق والإنسان...

عندما تحب، عندما تحب فعلاً، لا توجد أية شروط، الحب لا قيد له أو شرط. فأنت تحب من أجل بَهجة الحب المطلقة، والحب الحقيقي مُطلَق لا تذبذب فيه، ولا يعرف أي تردد.

 

الصوفية تجربة غنية في وعي الإنسان: كيف تحوّل وعي الإنسان إلى عشق، هذا هو سر الأسرار... خلقنا كلنا أحرار... وهذا ما نفعله الآن معاً...

 

قد تُدركون أو لا تدركون، لكن هدف هذه التجربة بكاملها خَلق أكبر طاقة حب ممكنة فينا. ويمكن تحويل الإنسان إلى طاقة حب مطلقة.

 

تماماً مثلما هناك طاقة ذرية اكتشفها العلماء، حيث تتفجّر ذرّة صغيرة مُعطية طاقة هائلة، تستطيع كل خلية في قلبك أن تتفجّر وتعطي حباً عارماً. وهذا الحب هو العشق.... الصوفية هي طريق العشق... مَن عمل مثقال ذرة خيراً يره ومن عمل مثقال ذرة شراً يره...

 

تذكّر أن هذا طريق تختارُه، وليست عقيدة تتبعها... لك كل الخيار أيها الإنسان المختار والمحتار وكفاك سماعاً للأخبار..

 

المسلمون يُسمّون العقيدة تسمية مميزة، يدعونها الشريعة.

تضم الشريعة كلاً من: العقيدة، المبدأ، الدين، الأخلاق، الفلسفة، اللاهوت. لكن الصوفية ليست شريعة، ولا تعتمد على الكتب. الصوفيون ليسوا رجال كُتُب.

 

الصوفية طريقة، أسلوب، تقنية، علم، طريق إلى الحقيقة، طريق إلى ما هو كائن في كل الأكوان.

 

تذكّروا الفرق بين الشريعة والطريقة.

 

اللاهوت يفكر بالإله، وتفسير كلمة لاهوت يعني المنطق، منطق الإله، التفكّر، الفلسفة، التأمّل في الإله.

 

الصوفية لا تفكّر بالله، لأن الصوفية تقول كيف تستطيع أن تفكر بالإله؟

التفكير لا يكفيك مطلقاً. تستطيع أن تُفكّر بالعالم، لكن ليس بالله.

تستطيع فقط أن تغرق في حب الله، ولن يكون ذلك لاهوتاً لكنه سيكون طريقةً لإظهار الحب.

سيكون تجربة في وعيك، تجربة لتحويل وعيك من الطاقة الكثيفة المادّية إلى الطاقة الرقيقة الشفافة، من الطاقة الدنيوية إلى الطاقة الإلهية.

 

الطريقة هي التي أدّت بالصوفيين إلى التناغم مع الكلّية.

 

و هناك شيئان أساسيان مطلوبان لإتباع هذه الطريقة.

أولهما الفقر، والفقر يعني الفقر الروحي، البساطة، عدم التكبّر ونفي الأنا.

عندما قال المسيح "طوبى لفقراء الروح" كان يتحدّث عن الفقر الذي لا يعني الحاجة، ولكن الحاجة الروحية. فحتى الملوك يمكن أن يكونوا فقراء روحياً، وحتى المتسولون قد يكونوا أغنياء روحياً!

 

لو كان المتسول مغروراً من داخله، فهو ليس فقيراً في الروح، ولو كان الملك متواضعاً فهو فقير في الروح.

 

الفقر الروحي يعني أنه لا يوجد أحد في داخلك، بل هناك فراغ مطلق، ويسكن فيك الصمت... وأنت الساكن في السكينة... هذا هو المسجد في كل جسد يعبد الله الواحد الأحد...

هذا الفقر لا علاقة له بالفقر الخارجي.

من السهل أن تكون فقيراً خارجياً، لكن هذا لن يساعدك، فالفقر الداخلي هو المطلوب... وهنيئاً لفقراء القلب ولأغنياء الجيوب...

 

إذا اتبعتَ هذا الفقر، ستكون النتيجة النهائية هي موت الأنا في موت الفناء...

كانت فكرة الموت هي الـ نمَوت... أي موت البذرة في أرض صالحة لتصبح شجرة حاملة لكل الثمار والعطور...

 

الفناء يعني الحالة التي لا تكون أنت موجوداً فيها، وهي ما يدعوه حكماء الشرق بالاستنارة الكاملة والشاملة...

ستموت ببطء، لكن هذا هو النمو وهو ظهور الله وحده لاشريك له...

إذا كنت في حالة فناء، عندها فجأة، دون سابق إنذار، ستُولَد فيك حالة أخرى، هي البقاء.

البقاء يعني الوجود - الصوفية هي الجسر بين الفناء والبقاء.

جسر من التفكّر والتدبّر والتذكّر...

عليك أولاً أن تذيب نفسك كـ أنا... وبعدها يولد فيك الله.

قطرة الندى يجب أن تختفي منها صفة قطرة الندى وأن تذوب في المحيط، وتحيا في المحيط ويحيا المحيط فيها وتموت أنت وأنا...

وهذا هو الفناء...

لكن تماماً في لحظة ذوبانها تصبح هي المحيط بكامله، وهذا هو البقاء... وهو لا إله إلا الله...

 

هل نستطيع أن نحب؟ هل نقدر على تسليم الأنا إلى القادر؟...

هل نستطيع الاختفاء بالبقاء؟

 

لذلك قرّر ملايين الناس ألا يحبوا......

 

إذا حكمَت الأنا قرارَك، فعليك أن تبقى غير مُحبّ.

 

لا يمكن للحب والأنا أن يتواجدا معاً... إما أنت أو الله... فمن هو الحيّ؟

 

المعرفة والأنا يمكن أن يجتمعا، لكن الجمع بين الحب والأنا غير ممكن.

لا يمكن أبداً أن يجتمعا، فهما كالعتمة والنور: إذا وُجد النور، لا يمكن أن توجد العتمة. العتمة توجد فقط في غياب النور.

 

إذا كان الحب غائباً فيمكن أن توجد الأنا، وإذا وجد الحب فلا يمكن أن توجد الأنا. والعكس صحيح: إذا تلاشت الأنا ينبع الحب من جميع الجهات، وسيتدفق إليك ببساطة من كل الأماكن... نور من نور...

 

الإنسان شيء والله وسعَت رحمته كل شيء...

 

الشيء الأول هو الفقر، والثاني هو الذِّكر.

الفقر يعني الفقر الروحي، التواضع، البساطة، وموت الأنا.

والذّكر يعني التذكّر، أن تتلاشى كشخص، فتبقى حضرتك...

في هذا الوجود وفي هذه الحضرة تذكّر الله، دَع الله يحيا في داخلك

-- لا إله إلا الله...

 

دع هذا التذكّر يحيا في فناء ذاتك.

وفي نقاء هذا الفناء... صمت الصوت الصامت... صمت الأسرار... لحن الخلود...

لا تستمع إلا إلى موسيقى واحدة في داخلك -- لا إله إلا الله

 

ردّدها، ترنّم بها، دَعها تُحرّكك... ارقص معها، ودَع الموسيقى تملؤك.

 

على كل خلية من جسمك أن تبدأ بترديد:

لا إله إلا الله...

لا إله إلا الله...

لا إله الا الله...

 

و ستتفاجأ، لأنك ستصاب بحالة من السّكر، نعم ستسكر!!!

نعم، فصوت هذا السر بالذات سيجعلك مجنوناً.

إنها من أقوى الأذكار التي عاشها الإنسان...

 

ردّدها بحب، وستشعر بانشراح في صدرك... "ألم نشرح لك صدرك"..

وأن شيئاً ما يتغير في داخلك.

 

إنك ستتحوّل إلى نور، إلى حب، إلى شيء مقدّس... إلى ذاتك الأصيلة والأصليّة الموصولة بالأرحام...

ولن تشعر بذلك وحدك، بل سيشعر به الناس أيضاً من حولك.. كما النور يضيء العتمة...

 

تأمّل واشعر بهذه الكلمات الجميلة لأحد الصوفيين:

يا إخوتي... إن الذين يحبّون العالم يحبونك أنت أيضاً ويدعونك للمشاركة في هذه الدعوة...

دعوة الخلاص من عذاب الدنيا إلى حب الدنيا... إنها زينة الحياة...

تعال يا أخي نحيا بالحياة... نحيا معاً على هذا الممر... على هذا الجسر ومنه إلى المقرّ... تمتّع بهذا المخلوق وهو أنت وبكل مخلوقات الله وهي مرآة لنا... ولنتذكر معاً أنها فانية مهما كانت باقية... ولنرحل معاً من الفكر إلى التفكّر... ومن العقل إلى التوكّل...

معاً سنسير رحلة الحج لنصل إلى البيت العتيق... إلى البيت المعمور بالنور والمغمور بالحي القيوم...

نحن بانتظارك يا أخي.. الطريق بحاجة إلى رفيق... وكلنا بانتظار عيش الأسرار... كلنا حجاج إلى بيت الله الحرام... كلنا عشاق الحي القيوم... تعال ولنتعالى إلى العليّ.. لا إله إلا الله

هذه دعوة من كل داعي... إلى كل سامع وكل مجيب...

 

عبارة هامة جداً، لصوفي عظيم... حيث قال: "يتعالى النور إلى أعالي السموات من اجتماع الصوفيين، المجانين، الجالسين لله، بالله، وفي الله"

 

 

إذا كان الله وحده هو الموجود، إذاً لم يُخطئ المنصور الحلاج عندما قال:

"أنا الحق!"

 

إذاً لم تخطئ كتب الحكمة والأناشيد عندما قيل فيها:

"أنا الكمال المُطلق!"

 

ولم يخطئ الحكيم عندما قال:

"لم أصبح مُستنيراً فحسب، بل أنني في اللحظة التي امتلأتُ فيها بالنور رأيت الوجود بكامله مُنيراً!

إنني أؤكّد أن الكون بكامله قد استنار!

قد لا تكون مُدركاً لذلك، لكنّي أستطيع رؤية النور فيك"

وأنتم نور العالم...

 

هذه هي وظيفة الوليّ أو المُرشد أو المعلم: أن يرى الجوهر الحقيقي الكامن فيك، أن يرى ما قد يتحول في أي لحظة إلى واقع، وأن يساعد في تحويله إلى واقع... تذكّر أيها الإنسان أنك جوهرة الأرض وخليفة الله...

 

قال أحد الحكماء: أنتم جميعاً آلهة متنكّرون... ولم تُدركوا بعد حقيقة ذاتكم.

 

وعندما قلتُ أن لقاءنا هذا صوفيّ، فقد عنيتُ ذلك حرفيّاً..

 

راقبوا هذا الصمت، هذا الجمال، هذه البركة التي تغمرنا.. هذا السكون، هذا الفقر....

في هذه اللحظة، اختفت الأنا من داخلنا، وبقي السكون الصافي... السكينة في الساكن...

اختفت الشخصية، وبقي الحضور، بقي وجودنا فقط. وتصاعدَ النور إلى أعالي الجِنان والقلوب....

 

أينما وُجد المجانين... أينما وُجد العاشقون... أينما التقى السكارى بالله، أينما وُجد الحب والبساطة، أينما وُجدت الصلاة، الذّكر، وتذكّر الله، تحصل هذه المعجزة ونعيش أسرارها...

 

قد لا تكون قادراً على رؤيتها لكنها تحصل. وعليك أن تتناغم مع هذه المعجزة التي تحصل هنا... الحقيقة لا تراها العين لكن تُبصرها القلوب...

 

أنا لا أعلّمكم أي شيء عن الله، لستُ مهتمّاً بإعطائكم أي معرفة عن الله.

 

أنا أشارككم في اختباري... نعم إنها مشاركة. أريد أن أحرّك الإله الذي ينام داخلكم، وأن أُثيرَه. وهذا هو ما فعلَته الصوفيةُ عبر العصور:

 

أن تُثيرَ الساكن لتُحوّله إلى حياة.

 

قال أحد الصوفيين عن الزاوية:

 

هذه ليست كعبة، ليطوف حولها الأغبياء 

ولا مسجداً ليضجّ بصَخب الجهلاء،

هذه هيكل للخراب التام... لفناء الإنسان إلى البقاء

داخلها يوجد العشاق، من قبل الوجود وحتى يوم الحساب والحب والخلود... الذين رحلوا عن أنفسهم وغرورهم وماتوا بالحق القيّوم...

 

يدعو الصوفيون اجتماعاتهم "معابد الخراب التام" أو الخرابات لأنه عليك أن تموت وتتلاشى... كما تموت قطرة الماء في المحيط.

اللقاءات الصوفية خالية تماماً من الأشخاص! الله فقط هو الموجود..

إنها خرابات. كلمات ثورية جداً حيث قال: هذه ليست كعبة، ليطوف حولها الأغبياء... أصحاب الشرائع المشرّعة بالجهل وبالعقائد المعقّدة المبددة...

 

أقول لكم الشيء ذاته عن هذا الاجتماع، إنه ليس كعبة يطوف حولها الأغبياء -لذلك دائماً يغضب المعتوهون مني- ولا مسجداً ليضج بصخب الجهلاء.

هذا المكان ليس للجمهور وللعامة، هذا المكان لصفوة الصفوة وخاصة الخاصة ونخبة النخبة، مخصص للمستعدين للموت في سبيل حبهم، ولمن يخاطرون بكل شيء في بحثهم عن الله والعودة إلى البيت المعمور...

 

هذا المكان خرابة فإذا اقتربتَ مني تذكّر، أنك هنا لتموت..

 

قال الحبيب: موتوا، قبل أن تموتوا..

 

هذه عبارة صوفية، موتوا قبل أن تموتوا. الموت قادم، الموت سيأخذك يوماً ما، ولكن هذا لن يكون موتاً طوعياً، لن يكون استسلاماً، بل ستكون مُجبراً على الموت.

إن الصوفي يموت باختياره، يموت بحبه. لا ينتظر الموت حتى يأتي، الحب سبب كاف للموت.

والموت في الحب جميل، لأن الموت في الحب هو تجاوزٌ للموت وقضاءٌ عليه. استمع للحبيب: موتوا قبل أن تموتوا..

 

إذا كنت تستطيع أن تموت معي هنا... أنا رجل ميت. لقد متّ منذ أن وُلدت...  

 

وكل ما أعلّمك إياه هو فن الموت، حتى تستطيع الانتقال إلى حالة الفناء، وأن تتلاشى بالبقاء...

إذا حقّقتَ حالة التلاشي، فإن الله يُكافئك فوراً بالبقاء، ويتحدّر الوجود فيك، وهذا هو الخلود.

 

الباب الذي عليك الدخول منه هو باب الحب، لأن العاشق وحده هو الذي يموت بإرادته.

لا يموت طوعيّاً إلا العاشق، لأن العاشق يعرف أن الموت ليس موتاً، بل هو بداية رحلة الحج السُرمديّة.

 

إننا لا نبني كعبة هنا حتى يطوف بها الأموات، ولا مسجداً لتضجّ فيه الرؤوس، بل نخلق جوّاً من المحبة... حيث يمكن لبراعمكم الصغيرة أن تتحول إلى أشجار تصل بعطرها إلى النجوم...

 


 

وعندما يصبح المرء مُولعاً بالحب وتتحول نفسه إلى محبة صافية تجاه الوجود بكامله... يتحقق الله في ذاته...

عندها فقط يغمرك شعور بالرضى والقناعة والبركة... هذا هو الرضى والتسليم.

                                                                     

الله والألوهية هي حالتك الدائمة! لكنك لم تكن قادراً على جَمع الشجاعة الكافية من أجل الموت في الحب. الصوفية ستحملك على فِعل ذلك، وستُغويك بالموت في الحب.

 

يقول حكيمٌ صوفي:

 

فكّرتُ فيكَ كثيراً، لدرجة أنني أصبحتُ أنا أنتَ

اقتربتَ منّي تدريجياً، وأنا ببطء متّ ورحلت

هذه هي الرحلة... ذوبان المخلوق بالخالق

 

إذا تذكرتَ الله، وتذكّر الله يعني أن تراه في الأشجار والطيور والناس والحيوانات.

أينما رأيتَ الحياةَ انظر إلى الله، أينما رأيتَ الوجودَ فابحث عن الله، لأنه لا يوجد شيء إلا الله - لا إله إلا الله. لذلك ستجده في كل مكان.

 

لا تبحث عنه كشخص، وإلا ستبقى بعيداً عنه.

لهذا السبب تجد أن ملاييناً من الناس بحثوا عن الله ولم يجدوه، فهم يبحثون عن صورة معينة. الله ليس له صورة، ليس شخصاً. الله هو هذا الكمال، الله هو كل ما يكون... الله هو كل الأسرار وأبعد من كل الأسرار...

 

لذلك لا تبحث عن الله في شخصية معيّنة، فبذلك لن تجده أبداً،

وعندما لا تجده ستبدأ بالإلحاد، لأنك قد بدأتَ من رؤية خاطئة.

 

لقد نشأ الإلحاد لأن الناس يفكّرون بالله كشخص.

المُلحدون موجودون بسبب من يُسمّون أنفسهم بالمتديّنين.

 

فالمتديّنون يتكلمون عن الله كأنه شخص، ولا يستطيعوا أن يثبتوا وجوده. وهُم بذلك يخلقون الجو الملائم لنشوء الإلحاد!

نصف البشر تقريباً ملحدون!

جميع الشيوعيين ملحدون، والباقي هم متديّنون مزعومون فحسب، ومستعدّون للإلحاد في أي لحظة!

 

هل تعلمون أنه قبل الثورة الروسية، كان الاتحاد السوفييتي من أكثر البلاد تديّناً في العالم؟؟؟

 

كان متديّناً مثل الهند. وبعد الثورة، خلال خمس سنوات، اختفت جميع الأديان ببساطة.

 

ما نوع هذا الدّين الذي يختفي في خمس سنوات؟

عندما وصل الملحدون إلى السلطة، استسلم الناس ببساطة إلى الإلحاد.

 

هذا الدين مزيف، إنه مظهر فقط... وما المظاهر إلا صور تختفي على المنابر...

 

الشيء نفسه سيحصل للهند، يوماً ما ستصبح هذه البلد بلا دين.

بمجرّد وصول الغير متديّنين إلى السلطة، ستختفي الهياكل والمعابد والمساجد، لأن هذا الدين ليس ديناً حقيقياً.

 

في الواقع، مجرد فكرة الله كشخص تخلقُ فيك الشكوك. ما شكله؟ كم من الأيدي لديه؟ هل هو أبيض أم اسود؟ رجل أم امرأة؟ إلى أي عرق ينتمي؟ هل هو كبير في السن؟..... وآلاف الأسئلة، التي لا توجد أي إجابة على أي منها.. لأنك بدأتَ بشكل خاطئ: الله ليس شخصاً... الله ليس إلهاً... ليس صنماًَ ولا مالاً... ولا مخلوقاً ولا فكرة...

 

الله هو الوجود... الأبعد من أبعد الحدود.

 

إذا استوعبتَ هذه الفكرة الأساسية عن الصوفية، سيصبح فهم الأمور أسهلاً عليك:

الله مرادف للوجود، مرادف للكينونة، أن تقول الله فأنت تعني الوجود وكل شيء فيه.

 

 


 

** أما القصة فتقول:

 

أتى رجلٌ إلى بهاء الدين وقال:

"لقد سافرتُ من مُرشد إلى آخر، ومن معلم إلى آخر، ودرستُ العديد من الطرق، التي أكسبني كل منها كثيراً من الفوائد.

والآن أتمنى أن أصبح واحداً من مريديك، فأستطيع أن أشرب من بئر معرفتك، فأجعل نفسي أكثر تقدّماً في هذه الطريقة، هذه الطريقة الروحانية."

 

بهاءُ الدين، بدلاً من إجابته على السؤال، طلبَ إحضارَ الغداء.

 

عندما أتت وجبة الرز واللحم، بدأ بهاء الدين يسكب لضيفه الصحن تلو الآخر. ثم ألحقه بالفواكه والمعجنات، وبعدها الفطائر والعصائر والعديد من أنواع الطعام، الخضر، السلطات، المربيات..

 

في البداية شبعَ كبرياءُ الرجل... وبرؤية ابتسامة بهاء الدين له عندما يبتلعُ كل لقمة... استمر ببلع الطعام والشراب قدر استطاعته..

 

وعندما أبطأ بالأكل... أظهرَ الشيخ الصوفي انزعاجاً كبيراً.

بدا الشيخ منزعجاً جداً. وليتجنّب غضبه، أكلَ الرجلُ المسكين وجبة أخرى.

 

وعندما امتلأ ولم يعد يقدر على بلع حبة رز أخرى، تدحرج على وسادة متلوّياً من الألم المبرح... وهنا خاطبه بهاء الدين بطريقته:

 

"عندما أتيتَ لتراني، كنتَ مليئاً بالتعاليم التي لم تهضم، مثلما أنت مليء الآن باللحم والرز والفواكه.

شعرتَ بعدم الراحة، ولأنك لم تعتد على التعب الروحي الحقيقي، فقد فسّرتَ تعبك هذا بجوع للمزيد من المعرفة. حالتك الحقيقية كانت سوء هضم.

 

أستطيع أن أعلّمك إذا كنتَ ستتبع تعاليمي

وتبقى معي هنا وتقوم بهضم أفكاري

بواسطة بعض النشاطات التي لن تبدو لك كنشاطات مُهيِّئة

لكنها ستكون كشيء تأكله وسيُمكّنك من هضم كامل وجبتك

وتحويلها إلى غذاء لا إلى وزن

 

 

 

وافقَ الرجل.

وروى قصته بعد عدة عقود، بعدما أصبح مشهوراً بالمُرشِد الصوفيّ العظيم: خليل أشرف زاده.

 

 

بهاء الدين النقشبندي واحدٌ من أعظم المرشدين على مر العصور.

 

نقشبند تعني المُصمِّم، وقد كان النقشبندي مصمّماً ومُخطّطاً، وهذه القصة هي إبداع وتصميم له.

لقد كان يختلق المواقف، لأن الناس لا يمكن تعليمهم إلا من خلال المواقف الحقيقية التي تمرّ بهم. وقد كان من أعظم المخططين.

 

لقد تعلّم  كثير من الحكماء من هذا المعلم.

 

لم تقم أي مدرسة أخرى من مدارس تطوير الإنسان، بابتداع وسائل كثيرة مثلما فعل النقشبنديون.

 

كان بهاء الدين يقول دائماً أن الناس نيام، حيث أنك لو ببساطة تكلّمتَ معهم سيسمعون، لكنهم لن يسمعوا! سيسمعون، لكنهم لن يُصغوا.

و حتى لو أصغوا، فسيعطونك المعاني التي تحلو لهم... لنتذكر معاً أن مراتب العلم درجات، منها الصمت والاستماع والحفظ والعمل به ثم نشره...

ولكن الناس غارقون في النوم، إلا عندما يواجَهون بالمواقف الحقيقية، وعندها فقط سيخترق شيءٌ ما عقولَهم السميكة المتبلّدة... من هذه الغيوم الملبّدة بالهموم وبالسموم إلى صفاء السماء والبعد عن كل الأبعاد...

 

قدمَ رجل إلى بهاء الدين، وقال: لقد سافرتُ من مُرشد إلى آخر، ومن معلم إلى آخر...

 

يسافر العديد من الناس من معلم إلى آخر، من فلسفة إلى أخرى، من مدرسة إلى أخرى، ويظنون أنهم يحصلون على كثير من المعارف.

 

إنهم يجمعون النفايات لا أكثر، لأن المعرفة لا تحقق بهذه الطريقة، فالحجر الذي يتزحلق لا تنمو عليه الطحالب.

من يبحث عن الاستنارة الروحية عليه أن يكون في حالة عشق وحب عميق مع معلّمه.

إنها ظاهرة حساسة، وتتطلّب وقتاً.

 

لا يمكنك أن تكتفي بالتنقّل من باب إلى آخر، فبذلك ستبقى متسوّلاً.

 

نعم تستطيع جمع بعض المعلومات، لكن كل المعلومات داخلك ستضطرب، لأن لكل مدرسة طُرقها، والتي هي طرق ومبادئ مثالية في بيئة معينة. لقد صُمّمت من قبل معلّمين، وهناك أسلوب لكل منهم يجب أن يُتّبع.

تلك المبادئ لا يمكن أن تُخلَط بمبادئ أخرى... فلا ترحل من كون إلى كون... بل ارحل من الأكوان إلى المكوّن... وإلى ربك المنتهى.

 

إذا انتقل المرء من معلم إلى آخر معتقداً أن هذا سيعطيه الكثير من المعرفة، فإنه سيُصاب بالعُصاب وسيقترب من الجنون المرضيّ، لأن كُلاً من هذه الطرق صحيحة في سياق قولها الخاص، لكنها خارجه قد تصبح خطرةً... وهذا يشبه ما نفعله مع جميع الأخصائيين بالأمراض الجسدية... من خصخصة إلى خصخصة وننتهي باللصلصلة...

 

وسياق الكلام أو طريقة التعبير عن الموضوع تتواجد فقط مع المعلم، تتواجد فقط في النور الخفيّ الذي يبثّه المعلّم، لأن المعلم هو الوحيد الواعي لما يجري... ولكن أي معلم!... إنه العارف بالعلم وبأبعاده...

 

يأتي بعض الناس إلى هنا، يُراقبون ويحاولون جمع بعض الأجزاء الصغيرة، ثم يظنون أنهم سيستطيعون المحاولة بمُفردهم.

إنهم يفعلون شيئاً خطيراً جداً.

 

أحبّ أن أنبّههم: هذه الطرق قد تكون خطرة بعيداً عن سياقها ومناخها الخاص، هذا المناخ موجود فيَّ أنا، وموجود هنا في الحالة الكليّة المخلوقة بيننا. عليك أن تكون هنا لكي تتعلم شيئاً يمكن أن ينفعك. وعليك أن تكون صبوراً جداً، لأن هذه الأشياء لا تصل إليك كالبضائع!!! بل تتطلب وقتاً...

هنا بيت الجماعة... حيث يكون المرشد في خدمة المريد... هنا الميدان الأول... أي خدمة أنفسنا... فإنْ انتصرنا عليها كنّا على غيرها أقدر وإنْ أخفقنا في جهادنا كنّا عما سواها أعجز... فلنجرّب الكفاح معها أولاً... لذلك من الضروري أن نكون معاً في بيت الجماعة... حيث قال الحبيب "يد الله مع الجماعة"...

 

كان التلميذ قديماً وحديثاً جداً يأتي إلى المعلم ويقول له:

 

"نوّرني يا معلمي"

 

فيطلبُ منه المعلم الجلوسَ في زاوية معيّنة،

ويُعطيه طريقة خاصة للتأمل معه.

وبحضور المعلّم الواعي، يتم نقلُ العِلم الكلّي الحقيقي،

وليس بقراءة وحفظ الكتب والمجلّدات!!!

بل بالحضور مع حضرة الموت والحياة...

 

إن الحب الموجود بين المعلم ومُريده ليس كالزهور الموسمية! بل إنه يحتاج إلى فترات طويلة من الإلفة والمودّة.

على المريد أن يكون على اتصال مباشر مع المعلم لأطول مدة ممكنة. عندها فقط، وشيئاً فشيئاً، سيتفجّر شيء ما في وعيه، ويبدأ شعاع من النور باختراقه... هذا هو الإختراق وهو عكس الإحتراق...

 

إن هذا الرجل يشبه إلى حد كبير من يُسمّون أنفسهم بالمُلتمسين أو الباحثين.

قال: "لقد سافرتُ... ودرستُ العديد من الطرق.."

لكن هذا قول سخيف جداً...

ليس عليك أن تُلِمَّ بالعديد من الطرق، طريق واحد يكفي. لماذا تهدر الوقت في دراسة الطرق والسفر؟..

إذا كانت غايتك الوصول إلى قمة الجبل، فلماذا إذاً تدرس جميع الطرق المؤدية إليها؟

ببساطة، انتقي أحدها واتبعها.. لماذا إضاعة الوقت؟

الحياة قصيرة جداً، وقد تكون نهايتها غداً.

ليس من المعقول أن تستمر في إضاعة الوقت والجهد في أشياء غير ضرورية... إن الحبيب ذهب إلى جبل الغار ودخل في التأمل ولم ينتظر حتى يأتي إليه الجبل... بل ذهب إلى حيث وجد الاقتراب لا الاغتراب...

 

إذا التقيتَ بمعلم ما، وشعرتَ بأنه ملاذك، فاغرق فيه تماماً.. وانسَ وجود أي معلم آخر، وانس وجود جميع الطرق الأَخرى... استمرّ في طريقك أنت...

 

عندها دع الحب يتملّكك. وعندها فقط، انتظر بصبر، فشيءٌ ما سينمو ببطء.

إنه كالجنين الذي ينمو في الرحم. إذا لم تكن الأم مستعدة لأن تنتظر لتسعة شهور، فإن الجنين لن ينمو.

والجنين الذي ينمو بين المعلم والمريد قد يستغرق أكثر من تسعة شهور، تسع سنين، تسعين سنة؟

لا أحد يعلم لأن هذا سيختلف باختلاف المريد، ويتوقّف على سير المريد وعطشه.

 

وهذا الرجل يُمثّل الناسَ المدعوّون بالملتمسين. الذين ينتقلون من معلم إلى آخر ويدرسون جميع الطرق... وكما نقول بلغة القلب... نسير من حَيط لحيط ولم ندخل البيت...

 

قال الرجل: "...ودرستُ العديد من الطرق، التي أكسبني كلٌّ منها كثيراً من الفوائد"

 

كلامه غير منطقي، إنه يُعزّي نفسَه بهذا الكلام، فهو لم يجمع إلا الحُثالة.

 

لقد كان يتسوّل، فحصل على بعض القطع من هنا وهناك، ولكنها حثالة ونفاية لا تنفع.

 

لا تظن أنك ستُدعَى كضيفٍ إلى طاولة المعلم وعالمه!

بل عليك أن تعمل بجدّ حتى تحظى بالجلوس إلى طاولته، عليك أن تدفع الكثير لذلك، فهو ليس شيئاً رخيصاً!... تذكر ما فعل أهل الذكر حتى وصلوا إلى منابر من نور... هذه هي طريق الحج وطريق الحق...

 

يأتي بعض الناس إلى هنا ويبدؤون بتعلم بعض طرق التأمّل، وبعد يومين أو ثلاثة، يعتقدون أنهم اختبروا التأمل والآن سينتقلون إلى مكان وطريق آخر ليتعلموا نهجاً آخر... لكنهم أناس أغبياء.

 

هؤلاء الناس يخلقون عُصاباً لأنفسهم وللآخرين أيضاً، لأنهم بعد أن يجمعوا الكثير من المعلومات يبدؤون بنُصح الناس.

وعاجلاً أم آجلاً، يتحوّل الناس من هذا النوع إلى معلّمين حسب هواهم!

 

لقد أصبح العالم في فوضى كبيرة بسبب المعلمين المزيّفين، ومن هو المعلم المزيف؟

 

المعلم المزيف هو الذي ارتحل من معلم إلى آخر ولم يبقى عند أي منهم، لم يثبّت نفسه عند أي أحد، وبذلك جمع الكثير من المعلومات، وأصبح ذي معرفة واطلاع كبيرين.

 

والآن صار بإمكانه أن يُعلّم!

كل ما يعلّّمه هُراء، ولكنه سيستمتع بالتعليم، فهذا الشيء يُرضي غُروره: "أنا العارف العالم، والآخر جاهل..." هذا الشعور يرضيه كثيراً.

 

احذر من هذه المصائد!!! فهي على طريق كل باحث.

 

يستطيع المرء أن يُقنع نفسه بأنه قد استفاد كثيراً، فنفْسُ الإنسان لا تدعهُ يعترف بسهولة أنه كان أحمقاً!

 

*منذ أيام، أتاني رجل وحملَ اسمَ مُريد في مركزنا هنا.

 

وقد كان يتبع تعاليم الديانة الهندوسية لعدة سنين، وكان رجلاً كبيراً في السن.

 

بعدما قرر أن ينضم إلينا سألني: "هل عليّ أن أبدأ بالتأملات التي تمارسونها، أم أستمر بالتأمل الذي أتبعه منذ 30 سنة؟"

 

أمعنتُ النظر في الرجل، لا يظهر عليه أي أثر للتأمل.

 

سألته: "كيف كانت التأملات التي تتبعها؟ هل ساعدتك في شيء ما؟ هل زادت من وعيك؟ هل أصبحت صامتاً، مُباركاً وراضياً؟ هل حقّقت لك شيئاً؟

هل اخترقك أي نور من خلال تأمّلاتك تلك؟ هل أدركتَ ماهيّة الكون والمكوِّن؟"

 

قال: "نعم، لقد ساعدَتني كثيراً، تعلّمتُ الكثير، نموتُ وتطوّرتُ من خلالها.."

قلتُ له حينها: "استمر في تمارينك القديمة، لا داعِ لأن تُرهق نفسك بتعلّم ما نفعله هنا، ولكن لماذا أتيت إلى هنا؟"

 

قال: "هناك شيء ما ينقصني، وظننت أنني قد أجد شيئاً جديداً مميزاً يُرضي عطشي وجوعي."

 

قلتُ له: "استمر في تمارينك القديمة. علّها تُرضي علّتك... فهنا ستبداً من جديد... بتمارين مختلفة... فلماذا تضيّع الوقت؟"

 

وفي اليوم التالي كتب إلي رسالة:

"أنا آسف. لم أستطع النوم طوال الليلة الماضية.

كم أنا أحمق! لم يحصل لي أي شيء!

كيف استطعتُ أن أقول أمامك: تعلّمتُ الكثير، ونموتُ من خلالها؟

اعتقدتُ أنني حتى لو قلتُ لك أنها تنفعني، فإنك ستجعلني أمارس تأمّلاتك، لكنك وافقتَ على أن استمر بها.

وبعدها فكّرتُ في الأمر مليّاً، رجعتُ بالأيام، ورأيتُ أن سنواتي الثلاثين الأخيرة قد ضاعت هباءً. وفي الحقيقة هذا هو سبب قدومي إلى طريقك. لكن غروري منعني من أن أعترف بأنني استمرّيت في غبائي لثلاثين سنة، أقوم فيها بأشياء غير ضرورية لا معنى لها."

 

يحصل هذا للكثير من الناس الذين يأتون ويدّعون أن ما حصل معهم في الماضي كان عظيماً.. من الصعب على النّفْس أن تعترف..

لكن، عندما تأتي إلى المعلم عليك أن تكون صادقاً.

إذا لم تكن صادقاً مع معلمك، فمع من ستكون صادقاً؟

وكيف ستطلب من المعلم مساعدتك إن لم تقل الحقيقة؟

 

لقد رأيت أن ذلك الرجل كان صحراء قاحلة لم تنبت فيها زهرة واحدة..

لم يعرف شيئاً عن الربيع، ومع ذلك تسمعه يقول ما قال.

 

وضعُ الرجل الذي أتاني لم يكن استثنائياً، فهذا الغرور موجود في كل شخص...

 


 

قال الرجل لبهاء الدين بعدها:

"أتمنى الآن أن أصبح واحداً من مريديك، لأستطيع أن أشرب من بئر معرفتك، فأجعل نفسي أكثر تقدّماً في هذه الطريقة الروحانية."

 

ولكن، بدلاً من الإجابة على السؤال، فقد طلبَ بهاء الدين إحضارَ الغداء.

 

لقد كانت هذه خطة مُحكَمةً.

قام جورج جوردجيف... أحد كبار العارفين في أيامنا هذه بالتخطيط للعديد من الأشياء المُشابهة تماماً لطُرق بهاء الدين. الناس الذين لا يفهمون خطط المعلمين، لن يتمكنوا من الاستيعاب أبداً.

 

مثلاً، لو أتى رجلٌ نباتي إلى جوردجيف، فإنه سيأمره بتناول اللحم. لكن النباتي الذي يُعطى لحماً سيرفض، وقد يهرب! سيقول:

"ما نوع هذا الدين؟"

لكن بإعطاء اللحم، أراد المعلم أن يشوّش حالتك كلياً، ويغيّر تركيبة جسمك، لأن الحالة المشوّشة هي فقط التي ستُعرّفك إلى حقيقتك، وإلا فستبقى ماكراً جداً!

 

ولو أتاه شخص يتناول اللحم، لقال له:

"ابقَ نباتياً لثلاثين يوم، ثم صُم ثلاثة أيام، بعدها سأبدأ معك."

 

هذا المعلم لا يؤيد الغذاء النباتي ولا يُعاديه، إنه مُخطّط ومُصمّم بارع.

 

إن جوردجيف يُقيم حفلات رائعة وخاصة للطلاب الجُدد، ويحضّر أنواعاً عديدة من الطعام والمشروبات المنوّعة، ويستمر في هذا إلى منتصف الليل.

ويُقدّم الأكل والشرب بكميات كبيرة.

 

وعندما يفقد جميعُ الطلاب وعيَهم، سيُراقب، سيجلس بهدوء، ويُراقب الناس، لأن الناس بلا هذا السًّكَر، لن يبوحوا بأسرارهم...

 

فالرجل الذي كان يدّعي العزوبية، بعدما يسكر، سيبدأ بمغازلة المرأة التي تجلس بجانبه!!!! صحيح أنه أعزب، و يدّعي أنه ناسك، لكن بعدما يغرق في السّكر، سينسى العزوبية ويظهر على حقيقته.

 

والمرأة التي تدّعي أنها أنيقة جداً، سيّدة مجتمع مهذّبة ومثقّفة، أعلى وأسمى من الناس العاديين، ستتصرّف تحت تأثير الكحول كالعاهرة!!!!!

 

وجوردجيف سيراقب طلابه عندما يكونوا غير واعين. وبعدما يعرف حالتهم الحقيقية يكون قد حصل على كل ما يريد.

بغضّ النظر عما قالوه، سيعرف الحقيقة، وسيعمل بناءً عليها، لا على أقوالهم.

بدلاً من إجابة السؤال، فقد طلبَ بهاءُ الدين إحضارَ الغداء.

 

هذه واحدة من الأساليب الصوفية: لا يُعطون إجابة مباشرة أبداً.

بل يعملون بشكل غير مباشر، لأن الناس قد أصبحوا على درجة كبيرة من المُكر والدّهاء تمنعُهم من أن يستجيبوا مباشرة للتغيير.

عليك أن تأتيهم من حيث لا يتوقعون وأن تدخل من الباب الخلفي لفِكرهم.

 

-- عندما أتت وجبة الرز واللحم، بدأ بهاء الدين يسكب لضيفه الصحن تلو الآخر. ثم ألحقه بالفواكه والمعجنات، وبعدها الفطائر والعصائر والعديد من أنواع الطعام، الخضر، السلطات، المربيات..

وفي البداية شبعَ كبرياءُ الرجل...

 

هذا ما يحصل عندما تبدأ بجمع المعلومات: تُشبع كبرياءك، وتبدأ باعتقاد أنك "تعرف"، وتصبح مغروراً جداً..

في الحقيقية أنت لا تعرف شيئاً، لكن المعلومات التي جمعتها تُعطيك انطباعاً مزيّفاً، بأنك تعرف الكثير. وشيئاً فشيئاً، تنسىً هذه الكذبة وهذه اللعبة الفكرية وتصدّق نفسك بأنك أصبحت عالماً واسع الاطّلاع..

تبدأ بالتظاهر أمام الآخرين...وتصدق نفسك حتى أمام نفسك...

 

في البداية تخدع الآخرين، ثم تقع ضحية لتلك الخدعة برؤية انطباع الناس من حولك والذي قد خلقتَه أنت فيهم!! وتصدق هذا القناع الذي اقتنعت به...

 

عندما يعتقد الآخرون أنك تعلم، تبدأ أنت بتصديق ذلك.

فكيف من الممكن أن يكون كل هؤلاء الناس على خطأ؟ كلّهم يعترفون بعلمك، إذاً أنت عالم..

عندما تكون بمُفردك قد تُراودك بعض الشكوك، لكن بوجود الناس من حولك، تتلاشى جميع شكوكك.

"كلهم يثقون بي، فأنا على حق" وهذا ما فعله هتلر ونابليون ونيرون!!!

 

بدايةً تخدعُ الناسَ، ثم يغرُّكَ تصديقُهم لك، فتصدِّق أنت أيضاً هذه الخدعة...

فهي علاقة متبادلة.

 

في البداية شبعَ كبرياءُ الرجل... وبرؤية ابتسامة بهاء الدين له عندما يبتلعُ كل لقمة... استمر ببلع الطعام والشراب.

 

كان بهاء الدين يخلق صورةً مثاليةً جداً..

وهذا ما يحصل عندما تذهبُ إلى من يسمّون أنفسهم بالمعلمين.

 

سيكونون في غاية السعادة عندما يرون أنك بدأتَ تتعلّم، وبدأتَ تُردّد كالببغاء...

 

عندما يرون أنك تردّد ما يقولون لك سيُسرّون كثيراً، لأنك تُرضي غرورهم.

فقد ازداد عدد الناس أو الجهلة الذين أصبحوا "ينطقون بصوت المعلّم"!!

سيشعرون بالسعادة مثل الآباء الذين يشاهدون أطفالهم يكبرون، ويشابهونهم تماماً... هذا هو علم الببغاء والبغاء...

 

عندما يُقال للأب: "ابنك يشبهك جداً!" فسيفرح بهذا كثيراً.

حتى لو كان قبيحاً وغبياً، وابنه قبيحٌ مثله، فهو لا يهتمّ بشيء ما عدا أنه لن يغادر العالم دون أن يترك فيه أثراً له... من خلّف ما مات... لكن ماذا خلّف!؟ غير مهم...

فهو سيترك هذا الولد في الدنيا، ليذكّر الناس بوجوده، سيترك بصمته في هذا العالم.

لهذا فإن كل أب أو أم يحاول أن يُقولِب ابنه ويُظهره على صورته، وهذا ما فعله الآباء بأبنائهم على مر العصور... هذا ما جناه أبي عليَّ وما جنيتُ على أحد...

فالأطفال هم أكثر الطبقات المُستغلَّة في العالم، إنهم عاجزون تماماً.

ويبدو أنه لا يوجد أي طريقة تُنقذهم من السجن الذي صنعه لهم آباءهم باسم الحب، وصالح الأبناء، ولضمان مستقبلهم...

وكل ما يحصل هو أن الآباء يحاولون أن يتركوا نسخاً عنهم في الدنيا بعد أن يرحلوا.. هذا هو الاستنساخ...

وهذا ما فعله بهم آباؤهم وهكذا.. وهذه هي فكرة: ضحيّة الضحيّة.

كلنا ضحية الجهل...

يبدو أن هذا الأمر يعود إلى آدم وحواء: فقد خلقوا أطفالهم على صورتهم.

في الإنجيل: خلقَ الله الإنسان على صورته. الله هو الأب، وخلق أطفاله على صورته. إذاً آدم وحواء أكملوا بهذه الطريقة.. واستمرّت العملية إلى اليوم...

 

أنت لستَ نسخة فحسب، بل أنت نسخة عن نسخ ونسخ.. والنسخة الأصلية ليس لها وجود..

 

فلا عجب في أنك تعيس، لأن الإنسان الأصيل فقط هو الذي يمكن أن يكون في سعادة وابتهاج --لأن الحقيقة تجلب السعادة، وأنت مزيّف..

 

لكن المعلم سيكون سعيداً جداً برؤيته لطلابه وهم يرددون ما يقول، فيمدحهم ويشجعهم.. هذا ما كان يفعله بهاء الدين مع هذا الرجل المسكين في المرحلة الأولى..

وفي البداية شبعَ كبرياءُ الرجل... وفرحَ كثيراً. وبرؤية ابتسامة بهاء الدين له عندما يبتلعُ كل لقمة... استمر ببلع الطعام والشراب قدر استطاعته..

 

من أجل إرضاء المعلمين المزيّفين فحسب، يقوم الناس بجمع كثير من المعلومات والمعارف قدر استطاعتهم.

 

وعندما أبطأ بالأكل...

 

لكلّ شيء حَدّ....!

 

...أظهرَ الشيخ الصوفي انزعاجاً كبيراً.

 

وهذا ما يحصل مع المعلمين! فهم سعيدون طالما أنك تبلع، تستسيغ طعامهم، وتردّده.

أما عندما تضجر منهم، تسأم من طعامهم وتوشك أن تتقيّأ: تجدهم ينزعجون ويقولون لك: "لقد توقّفتَ عن النموّ الرّوحي"

والآن، بسبب شدة غضبهم وانزعاجهم، ونتيجةً لخوفك منهم، ستحاول أن تبتلع المزيد من جديد، مهما كان الشيء الذي تأكله.

...بدا الشيخ منزعجاً جداً. وليتجنّب غضبه، أكلَ الرجلُ المسكين وجبة أخرى.

وعندما امتلأ ولم يعد يقدر على بلع حبة رز أخرى، تدحرج على وسادة متلوّياً من الألم المبرح... وهنا خاطبه بهاء الدين بهذه الطريقة:....

 

والآن خلق بهاء الدين الحالة الملائمة تماماً. فحتى أجهل الناس سيكون قادراً على فهم الموضوع.

...عندما أتيتَ لتراني، كنتَ مليئاً بالتعاليم التي لم تُهضم، مثلما أنت مليءٌ الآن باللحم والرز والفواكه.

شعرتَ بعدم الراحة، ولأنك لم تعتد على التعب الروحي الحقيقي، فقد فسّرتَ تعبك هذا بجوع للمزيد من المعرفة. لكن حالتك الحقيقية كانت سوء هضم."

 

لقد خلق الآن الحالة الملائمة لكي يضرب على الوتر الحسّاس في القلب.

الآن والآن فقط، سيفهم هذا الرجل ما يقوله بهاء الدين.

كان من السهل على بهاء الدين أن يقول ما يريد منذ البداية، لكنه وضعه في الوضع المناسب, وشاركه بالكلام المناسب ليصله إلى الوصل...

 

دعوني أذكر لكم الآن قصة من حِكمة الزّن. فطريق الزّن لا يختلف كثيراً عن الصوفية..

قد تختلف طرائقهم، لكن آثارها تتشابه لدرجة كبيرة..

 

معلّمو الزن أيضاً يخلقون المواقف، لكنهم بالطبع يعتمدون على التأمل وليس على الحب. أما الصوفية فهي طريق الحب، وليس التأمل.

لكن دعني أوضح لك شيئاً مهماً لكي لا تُسيء الفهم.

إذا تبعتَ طريق التأمل، فالحب سيتبعه كظله، وإذا تبعتَ طريق الحب، فالتأمل سيتبعه كظله.

إنهما دائماً معاً، إذا حقّقتَ أحدهما فإن الآخر سيتحقق تلقائياً دون تدخّلك.

 

لكن بالنظر إلى الوسائل والتصاميم نجد أن الصوفيين وحكماء الزّن متشابهون.... عندما تصل إلى قمة الجبل ستنزل بقوة النزول إلى الوادي... أي الصعود والهبوط... مسيرة واحدة...

 

 

تقول القصة:

أن أستاذاً في الفلسفة أتى إلى معلّم من الزّن، وسأله عن الله وعن النيرڤانا أي السعادة المطلقة وعن التأمل، وعن أشياء كثيرة... والمعلّم يُنصت لعشرات الأسئلة.

ثم قال المعلم: "يبدو عليك التعب، لقد تسلّقتَ هذا الجبل الشاهق، وأتيتَ من مكان بعيد جداً. دعني أقدّم لك فنجاناً من الشاي"

 

وصنعَ المعلم الشاي.. وأتى بالفنجان.

 

انتظره الأستاذ لكنه كان يغلي بأسئلته، وبينما كان المعلم يحضّر الشاي، وبدأت رائحة الشاي تعمّ المكان... قال المعلم للأستاذ:

"انتظر، لا تكن عجولاً هكذا، من يعلم؟ قد تأتيك الأجوبة بشُرب الشاي،

أو حتى قبل أن تشربه"

 

ارتبك الأستاذ، وبدأ يفكر:

"هذه الرحلة بكاملها ضاعت سُدى، يبدو على هذا الرجل أنه مجنون.

كيف يمكن لأسئلتي عن الله أن تُجابَ بشرب الشاي؟ ما العلاقة بين هذا وذاك؟ هذا الرجل مجنون، يُستحسن بي أن أهرب بأسرع ما يمكن، فقد يفعل شيئاً أكثر جنوناً... حتى أنه قال لي: قد تأتيك الأجوبة قبل شربك للفنجان! أهذا هو علم الأديان؟!".

 

لكن هذا ما حصل فعلاً..

 

لم يستطع الهرب لأنه كان يشعر بالتعب، وقد فضّل أن يشرب فنجانه قبل أن يبدأ بنزول ذلك الجبل الشاهق.

 

أحضر المعلم الإبريقَ، وبدأ يصبّ في الفنجان، وراح يصبّ ويصبّ.. امتلأ الفنجان، وبدأ الشاي يتدفق إلى صحن الفنجان، لكنه استمرّ في الصبّ..

امتلأ الصحن أيضاً، وبصبّ قطرة أخرى سيفيض على الأرض..

فقال الأستاذ: "توقّف! ماذا تفعل؟ هل أنت مجنون؟ ألا ترى أن الفنجان امتلأ، وصحنه قد امتلأ أيضاً!؟"

 

ردّ المعلم: "إن هذا يصفُ وضعك تماماً: فِكركُ مليءٌ بالأسئلة، لدرجة أنني حتى لو أجبتُك لما فهمتني، لأنه لا مكان لديك للأجوبة...

لكنك تبدو ذكياً، فقد فهمتَ أن قطرة أخرى من الماء لن تبقى في الصحن ـ بل ستفيض على الأرض.

لذلك سأقول لك، أنك مذ دخلتَ وأسئلتك تفيض على الأرض بل تفيض على المكان كله.

أنت مليء بالأسئلة، لذا، فعُد أدراجك، أفرغ ما في فنجانك، وتعالَ مرّة أخرى.. لكن بعد أن تخلقَ القليل من الفراغ في داخلك."

 

خلْقُ هذه المساحة الداخلية هو التأمّل. لقد صنعَ المعلم حالة مثالية.

 

 

فعل بهاء الدين الشيء ذاته بطريقة مشابهة. حيث قال:

 

"لقد كنتَ بحالة غير مريحة أبداً، تماماً مثل حالتك الآن، لكنك قد اعتقدتَ أن انزعاجك آتٍ من عطشك الرّوحي.

لقد كنتَ تُعاني، واعتقدتَ أن علاجك في مزيد من المعلومات، اعتقدتَ أن سبب مرضك هو قلة في المعرفة التي لديك.

 

الحقيقية هي أنك تُعاني لأنك حصلتَ على أكثر من اللازم!

لقد عانيتَ من زيادة الحِمل، من كثرة المعلومات التي لم تُهضم في داخلك بعد، واعتقدتَ بأنك بحاجة إلى معارف أكثر. هذا هو سبب معاناتك: عدم فهمك لمَرضك.

 

هذه هي حالتك بالضبط.

الحالة التي يعاني منها جسدك الآن، تُعانيها رُوحك منذ سنوات عديدة، وربما عانتها طوال حياتك. لقد عانيتَ من سوء الهضم."

 

ألهاكم التكاثر حتى زرتم وعشتم المقابر....

 

تذكر، حتى المعرفة، يجب أن تُهضَم، وعندها فقط تتحوّل إلى حكمة.

 

لو دخل الأكل باستمرار إلى جسمك دون أن يُهضم، فلن يتحول إلى دم وعظم.. سيتحوّل إلى مشكلة... إلى داء لا إلى غذاء ودواء...

ستُصاب بالسمنة، سيزيد وزنك، وستصبح بليداً..

لن يزداد ذكاؤك بهذا، بل ستصبح غبياً..

ستفقد من إدراكك ووعيك، وتزداد غفلَتُك.

ستصبح كالصخر القاسي ساكناً بلا حياة... ولا حياء...

لمن تنادي يا عبادي... يا عباد الأجساد والأوثان...

 


 

قال بهاء الدين:

"حالتك الحقيقية كانت سوء هضم.

أستطيع أن أعلّمك إذا كنتَ ستتبع تعاليمي، وتبقى معي هنا وتقوم بهضم أفكاري، بواسطة بعض النشاطات التي لن تبدو لك كنشاطات مُهيِّئة،

لكنها ستكون كشيء تأكله وسيُمكّنك من هضم كامل وجبتك وتحويلها إلى غذاء لا إلى وزن"

 

تناولُ الطعام صحيح طالما يعطينا التغذية، لكنه خاطئ عندما يسبب لنا فقط زيادة في الوزن.

تناول الطعام صحيح طالما يعطينا الحيوية، لكنه خاطئ إذا جعلنا بليدين.

و كونُك بليداً، لا يشبه أبداً كونك مفعماً بالنشاط والحيوية.

إذا كان طعامنا سليمأً فنحن لسنا بحاجة إلى طبيب، وإذا كان العكس أي نتناول طعاماً مريضاً فلن يستطيع أي طبيب أن يشفينا...

 

الشخص الحيوي ليس بليداً ثقيلاً، بل إنه خفيف وكأنه لا يزن شيئاً.

يتحرّك على الأرض، دون أن تلمسَ أقدامُه الأرضَ.

قد يطير في أي لحظة! فالجاذبية ليس لها أي تأثير عليه.

 

 

وقال بهاء الدين: "لكن سيكون عليك تحقيق بعض الأشياء، وعندها فقط أستطيع أن أعلّمك."

 

المعلم الحقيقي يستطيع أن يعلمك بعد أن تُحقق شروطاً معينة، وتحقيقك لها يعني أنك جاهز للاستيعاب والتلقّي.

 

يسألني العديد من الناس: "لماذا لا أستطيع أن أبقى هنا وأتعلم دون أن أكون مُريداً لك؟"

 

و أقول: "تستطيع أن تكون موجوداً هنا، وتتعلم ما تتعلمه، ولكن ما لم تكن مُريداً مطّلعاً، فلن تستطيع أن تستقبل النور الذي أتيحه لك"

 

عندما تصبح مريداً، فهذا مجرّد إشارة إلى: "إن أبوابي مفتوحة لك، وأنا جاهز لأستقبل طاقتك، فتعالَ وكُن ضيفي."

 

هذه هي طريق المريد، وهكذا ما يحتاجه الصوفيّ.

 

أنا لا أستطيع أن أعلمك شيئاً إنْ لم تكن أنت المريد وأنت المعلم...

لا أستطيع أن أعلمك الصيد إذا لم تكن أنت الصيّاد...

 


 

"أستطيع أن أعلّمك إذا كنتَ ستتبع تعاليمي، وتبقى معي هنا..."

 

والآن، هناك العديد من الناس هنا أيضاً..

منذ أيام، أتى إلي أحد المريدين وسأل:

"ما هي تمارين التأمل التي علي أن أقوم بها؟" 

واقترحتُ عليه بعض التمارين. لكنه سرعان ما ترك المجموعة الأولى. لقد اعتقدَ أنني لم أفهم حالته الحقيقية وأنني أعطيته مجموعة خاطئة، وتلك المجموعة لم تكن له.

اقترحتُ عليه تماريناً أخرى، لكنه لم يجرّبها.. بما أن الأولى خاطئة، فمن الطبيعي أن تكون البقية كذلك!

ثم عاد وسأل: "ماذا عليّ أن أفعل؟ أشعر بأن التمارين التي اقترحتها عليّ ليست مناسبة لي، فهل أستطيع أن أختار مجموعة بنفسي؟"

فوافقتُ له أن يختار بنفسه..

 

إنه الآن في مجموعة قد اختارها، لكنه منفصل عني. إنه الآن وحيد..

صحيح أنه مريد لكن ظاهرياً فقط.

 

لقد أعطيته المجموعة الأولى وكنتُ أدرك تماماً أنها لا تناسبه، لكن هذه كانت خطة..

هل سيثق بي؟ وهل سيبقى لثلاثة أيام في هذه المجموعة؟

نعم لم تكن المجموعة تلاؤمه، لكنني اقترحتها لخلق الحالة المطلوبة فقط.

والحالة كانت أنه لم يرتاح في هذه المجموعة، ولم يصبر لثلاثة أيام...

لم يثق بي حتى لثلاثة أيام!

لو وثق بي، وتحمّل في تلك المجموعة، لصارَ مريداً حقيقياً..

 

إنه من المريدين الآن لمجرّد أنه يرتدي التقاليد الخارجية، لكن لا يوجد أي اتصال بيني وبينه، فأبوابه مغلقة.

إنه هنا الآن لكن من دوني، وكل ما يفعله هنا كان بإمكانه أن يفعله في أي مكان آخر.

والآن، يطلب أن ينضم لمجموعة تمارين مواجهة الذات... كان بإمكانه أن يواجه ذاته في أي مكان آخر.

 

ما دام ليس متصلاً بي، فلن يكون جاهزاً لاستقبال طاقة المعلم المسؤول عن مجموعة مواجهة الذات. فذلك المعلم ليست لديه أية طاقة، فهو ببساطة يعمل بطاقة الكون. لقد وصل إلى مرحلة أصبح فيها وسيلة فقط وليس أكثر... وما هذا المعلم إلا صوت سيّده وتعاليمه... وموصول بالأكوان بصلة الأرحام... إنه يستعمل جسده لكنه مليء بالحب الكوني الأزلي...

ذلك المعلم لم يعد موجوداً، بل هو في حالة الفناء، لقد تلاشى التلميذ داخله، وهو الآن ببساطة يقوم بدوري. يداه هما يداي، وطاقته هي طاقتي نفسها، إنه جزء مني. إذا لم يكن هذا المريد متصلاً بي، فلن يتصل بذلك المعلم حتماً... هذه سلالة وسلسلة... وكلنا سلسلة متصلة بالكون والمكوّن...

يستطيع أن ينضم لأي مجموعة نمو ذاتي في أي مكان من العالم، فليذهب إلى أميركا، أوريا، أو أي مكان آخر...

ولكنك لن تجد مجموعة مميزة كالتي تجدها هنا. فالظاهرة التي تحصل هنا غريبة جداً.. هذه المجموعة لا يقودها قائد المجموعة، لأنه لم يعد موجوداً، أصبح مجرّد موظف بسيط وأداة للعزف كالناي الأجوف...

وأغنيتي تتسرّب من خلاله إليك..

المعلم هنا هو الناي... والله هو اللحن المطلوب لكل إنسان...

 

لا حاجة لمجيئك إلى هنا إذا كنت لا تستطيع أنت تتبع تعليماتي. وهذه التعليمات بسيطة.

لو أنني كلّفتك بمهمة أكبر من التي طلبتُ لكنتَ قد هربتَ!

ذاك المريد لم يستطع أن يتأقلم لثلاثة أيام مع مجموعة الاستنارة المُركّزة. فما نوع البحث الذي يقوم به؟

ليس لديه أي شغفٍ للحقيقة، ولم يفهم مهمة المعلّم..

 

أترون هذا الكرسي الذي أجلس عليه الآن؟

منذ أربعة أيام، طلبتُ من بعض الشباب هنا أن يُحضّروه للمحاضرات الصوفية خصّيصاً.

لقد عملوا ليل نهار، وأنهَوا عملهم منذ ساعات فقط!

لم يفكّروا أنه لماذا لم يقل لنا قبل فترة أطول؟ لماذا قال لنا ذلك منذ أربعة أيام فقط!؟ إنها غير كافية!!....

لكنهم استمتعوا، لأنهم فهموا الخطّة. وقد ارتفعت طاقاتهم عالياً.

 

عندما أنهوا عملهم ليلة البارحة، كانوا في حالة سكر وتخدير!

لأنهم قد عملوا باستسلام...

 

كان من الصعب جداً إنهاؤه بأربعة أيام، ولكنهم فعلوا ذلك..

لم يكن الكرسي هو ما يهمّني، بل كان شيئاً نقشبندياً، كان خطّة..

لقد تعلّموا شيئاً من خلال هذا: إذا استسلمتَ، تستطيع أن تسمو.

كلما زاد استسلامك، ارتفعتَ أكثر بوعيك..

 

كان بإمكانهم قول أن هذا الأمر صعب وغير ممكن، وأن يفوّتوا الفرصة...

لو أنهم قالوا ذلك فلن يعرفوا ما قصدتُه من هذه الخطة أبداً.

ولكني سعيد لأن كلاً منهم قد فهم تماماً ما قصدت.

 

شرعوا بعملهم ووضعوا كل ثقتهم به، وقالوا لأنفسهم: بما أنه قال أربعة أيام، فهذا يعني أن الأمر من الممكن أن يتم.. وكرّسوا أنفسهم وكل طاقاتهم لهذا العمل..

و عندما تُكرّس نفْسَك لأي شيء، وتؤمن به، فهذا سيصبح تأملاً.. سيجلب لك النشوة. لا بدّ أنهم كانوا في حالة وَجْد ليلة البارحة.. في لمحة من الحب الكوني العظيم...

 

عندما تكون مع المعلم عليك أن تكون واعياً جداً، لأن كل شيء مرتّب بطريقة تساعدك على النمو الروحي.

 

"أستطيع أن أعلّمك إذا كنتَ ستتبع تعاليمي

وتبقى معي هنا وتقوم بهضم أفكاري

بواسطة بعض النشاطات التي لن تبدو لك كنشاطات مُهيِّئة..."

 

مثلاً، تحضير الكرسي، ما علاقته بالنمو الروحي للمريد؟ وما علاقته بالتأمل؟

ألم أكن أستطيع أن أتكلّم عن الصوفية على كرسي آخر؟

لدينا العديد من الكراسي، ما علاقة هذا الكرسي بالمحاضرات الصوفية؟

لو فكّرتَ بالأمر، فلن تجد أي علاقة بينهما أبداً!

ولكن ليس هذا ما قصدتُه، لو فكّرتَ بهذه الطريقة، فلن تفهم المغزى..

 

قال بهاء الدين: "قد لا تفهم أن الذي أطلبه منك لا يبدو لك مُهيِّئاً على الإطلاق... لكنه سيكون كشيء تأكله وسيُمكّنك من هضم كامل وجبتك وتحويلها إلى غذاء لا إلى وزن"

 

لكنك إذا كنتَ تعاني من سوء الهضم، فالحبة المساعدة على الهضم

قد لا تبدو لك أنها تحمل أي فائدة، لأنك لا تفهم الكيمياء الداخلية للجسم.

لكن عليك أن تتبع تعليمات الطبيب الحكيم والمعلّم، هذه هي الثقة...

 

أحياناً قد يطلبُ المعلّمٌ أشياءً مستحيلةً، ولكن مباركٌ من يقتحم المستحيل.. وكلما زادت استحالة الأمر، ازداد نضجك وإنجازك من خلاله، وازدادت استنارتك بتحدّيك للمجهول والمستحيل...

وإن خفتم من شيء فادخلوا فيه....

 

الهدف الأساسي هو تحويل الطعام إلى غذاء، دون وزن زائد...

وكل ما يعطيك إياه المعلّم، يجب أن يتحوّل إلى حكمةً لا إلى معرفة..

 

المعارف وزنٌ زائد، والحكمة غذاء الروح....

 

المعرفة فِكرية، إنها مجرّد ذاكرتك التي تفيض بالمعلومات..

أما الحكمة فليست جزءاً من ذاكرتك، بل إنها تنتشر في كامل كيانك..

 

 

لن تحتاج لأن تتذكّر حكمتك!  المعرفة فقط هي التي تحتاج منك التذكُّر.

الحكمة لا تحتاج إلى التذكّر مطلقاً، فهي أنت وجوهرك!

أما المعرفة فتبقى منفصلة عنك، وإذا لم تتذكّرها ستنساها..

 

لا تستطيع أن تنسى الحكمة، فلا داعي لأن تتذكرها، ولذلك فهي لا تزيد من وزنك.

كلام الحكيم ليس عِبئاً عليه عندما يقوله!!!

وعندما أكلُّمك لا يشكّل هذا أي عبء عليّ.

ولا أبذلُ أي جهد، الأمر مريح تماماً بكامل الاستسلام والتسليم...

 

إنه مشاركة بين القلوب... لا أحاولُ أن ألقّنك أي شيء لتتعلّمه، ولكنه ببساطة فيضٌ يتدفّق مني إليك..... من قلبي إلى قلبك...

 

الحكمة طبيعية، كالغذاء المهضوم الذي أصبح جزءاً من جسمك الكوني...

أما المعارف والمعلومات فهي غير طبيعية... كالغذاء غير المهضوم العالق في الأمعاء، إنه عِبء على جسمك وشيء مدمّر لحياتك.

 

وافق الرجل على ما قال له بهاء الدين. وحكى قصته بعد عدة عقود، عندما صار مشهوراً بالمرشد الصوفي العظيم: خليل أشرف زاده.

 

لقد أصبح مرشداً عظيماً بنفسه وفي زمنه، لكن سبب تحقيقه لذلك هو أنه وافق.

نفس الشيء أقوله لك: إذا وافقتني، فعاجلاً أم آجلاً، سينطلق منك نورٌ عظيم... ستصبح نوراً بنفسك ولنفسك... وللآخرين أيضاً....

 

ستصبح منارةً لكل الذين يتخبّطون في الظلمة... والنور يجذب الفراشات الملونة إليه....

كونوا منارات للنور والهداية... ولا تكونوا ممّن يفرضون على الآخرين.... وينشرون التبشير ويأمرون الناس باتباع تقاليدهم وعقدهم...

 

لكن الشرط الأساسي هو أن تنسجمَ معي بلا تردّد، وبلا شروط...

بثقةٍ مُطلقة لا قيد لها أو شرط... فأنت تنسجم مع ذاتك في الحقيقة العميقة...

 

وعندها، ستُصبح هذه المعجزةُ احتمالاً وارداً جداً في حياتك أنت أيضاً.

 

لا إله إلا الله....
The Secret أوشو – من كتاب:
Chapter #1: La ilah illa Allah
11 October 1978 am in Buddha Hall

 

أضيفت في:7-9-2009... في قلب الله> الله و الألوهية
.... إذا وجدت أن الموضوع مفيد لك، أرجو منك دعم الموقع

 

 

© جميع الحقوق محفوظة.. موقع علاء السيد