موقع علاء السيد... طباعة
<<<< >>>>

التشخـيص

في ظل هذا التقدم التكنولوجي الكبير سقطت حضارتنا وثقافتنا كلها في فخ العقل ومصيدته...
أصبح العقل السيد الآمر الناهي بالجهل.. ونسينا أمر القلب، وفقدنا صلتنا به وبالرب.. ففقدنا صلتنا بالوجود كله..
ولكن نور القلب سينير لنا الدرب... القلب منبع الطاقة والحياة، ومصدر الدفء والعطاء...
إنه لا يستطيع منحنا التكنولوجيا العظيمة.. ولا الصناعة الكبيرة.. ولا الأموال والعقارات.. لكنه يعطينا الإبداع.. الابتهاج.. الاحتفال... وإحساساً رائعاً بالجمال بالموسيقى بالشعر...
إنه يرشدنا لعالم المحبة والصلاة لا لعالم السلع والأعداد والاقتصاد...
لا نستطيع زيادة رصيدنا من خلال القلب.. لا نستطيع شن حروب ضخمة ولا صنع قنابل نووية وهيدروجينية، ولا إبادة الآخرين.. فالقلب يعرف فقط كيف يحب ويضحك ويصفح.. أما العقل فيعرف كيف يكره ويحطّم ويصفع...
إن جامعاتنا ومدارسنا كلها تقوم بتدمير الإنسان... لم يعد هناك تعليم بل تعليب وتسطيح، يعتقدون أنهم يقدمون النفع والفائدة.. لكنهم يخدعون أنفسهم بكل بساطة... نحن لا نحتاج إلى مثل هذه الجامعات والمقررات والشهادات.. تكفينا أشهد فحسب... لأن مفاتيح مدينة العلم كلها في الداخل... ولا شيء في الخارج سوى الخيال والسراب..
لقد أصبح العلم الآن للقتل والدمار لا من أجل السلم والعمار.. فالعلم يعمي والجهالة تعمي.. وكلاهما بلاء وامتحان.... وكلما كنا متمسكين بعلبة العقل ولعبته أكثر فأكثر أصبحنا غافلين عن الوجدان والوجود أكثر فأكثر.. وازددنا بؤساً وشقاء وزال منا الصفاء والنقاء...
وهذا سيحول الأرض إلى جحيم... وبدل أن نغادر جحيم العقل إلى نعيم القلب ازددنا غرقاً في مستنقع الأفكار ونسينا القلب وتجاهلناه تماماً... ولم نعد نستطيع فهم لغته...
نحن ندرك المنطق لكننا لا ندرك الحب، نفهم الرياضيات ولا نفهم الموسيقى.. نرسم الخطط والمخططات ونجهل لغة الألوان..
يبدو أن لا أحد لديه الجرأة والشجاعة لينتقل إلى طرق أخرى مجهولة... إلى متاهات الحب غير المعروفة، المتغلغلة في أعماق القلب.. لقد رمينا ورود الشعر وانتقلنا إلى دنيا النثر... فغاب الشعر وتلاشى بكل بساطة... وليس الشاعر أو الفنان سوى ذلك الجسر الذي يجمع بين الباحث والصوفيّ، بين العلم والدين.. بين الفكر والروح... وبموته تحطمَ الجسر.. واختّل التوازن وضاع التكامل....
المشكلة الأساسية هي أننا نجهل لغة القلب.. لغة الحب والعطاء.. إن شمس القلب قد أصابها الكسوف ولكن لابد لهذا الكسوف أن ينجلي عن شمس مشرقة بالنور ساطعة بالحياة والمحبة...

لقد ضاع الشاعر.. ومات المبدع.. الموسيقي النحات الرسام العازف...
ودُمّر كل هذا الإبداع من أجل إنتاج المزيد والمزيد من السلع فخسر المبدع أهميته واعتباره، وأصبح الإنتاج شعارنا في الحياة... لم يعد هناك شاعر أو كاتب بل كاذب ومخادع....
الإنتاج يتحدث بلغة الكمية.... أما الإبداع فيتحدث بلغة النوعية..
الإنتاج يمكن أن يجعلنا أثرياء ظاهرياً، لكنه سوف يضعفنا داخلياً.. ويكسرنا روحياً... لأنه ليس عملية خلق أو إبداع بل مجرد أمر عادي جداً، وباستطاعة أي كان القيام به..
لننتقل من عالم الإنتاج والاستثمار إلى عالم الإبداع والأسرار.. من دنيا المال والربح والخسارة إلى دنيا الوعي والإدراك والاستنارة... لأن المال لا يأتي بالوعي... لكن الوعي يأتي بالأموال والأنوار...
إنه زمان موت الشعر والشعراء... زمان موت الزنابق والبلابل... وما يُسمى شعراً الآن ليس سوى كلاماً منثوراً.. وما يُسمى رسماً ما هو إلا شكل من أشكال الجنون كبرَ أو صغر...
يمكنك أن تنظر إلى بيكاسو، سلفادور دالي، ماتيس... وغيرهم... جميعهم ظواهر مرضيّة... بيكاسو نابغ عبقري.. لكنه مريض عليل، ورسومه ليس فيها أي شيء، إنها تساعده لأنها نوع من أنواع الإستفراغ والتفريغ.. إنها مرآة لكل تلك الفوضى والشكوى التي في أعماقه..
وإذا مُنع بيكاسو من الرسم.. فإنه سيغدو مجنوناً في الحال.. الرسم هو الدواء والشفاء له لأنه يحرر كل انفعالاته الحمقاء المجنونة فوق أقمشة اللوحات، لكن ما مصير هؤلاء الذين يشترون تلك الرسوم، ويعلقونها في غرف نومهم.. ويتأملونها؟
سيبدأ الارتباك والانزعاج والضّياع ذاته بالتسلل إليهم..

الإبداع هو أمر مختلف كلياً عن ذلك.. إذا تأمّلنا "تاج محل" في إحدى الليالي المقمرة... سندخل في حال عميق من التأمل والتفكر.. وسنندهش من تحول طاقتنا الجنسية كلها إلى محبة وابتهال وصلاة واتصال مع الأكوان.. وتلك هي معجزات الإبداع الحقيقي النابع من حنايا القلب والوجدان...
الكاتدرائيات الضخمة في أوروبا تتطاول لتلامس السماء.. وبإمعانك النظر فيها فإن معزوفة صامتة رائعة ستنساب في أعمق أعماق قلبك ووجدانك، وإشعاعاً من نور أبدي أزلي سيتغلغل في خبايا نفسك ليغمرها بفيض من الأمن والأمان والسلام..
لكن الآن لم يعد هناك لا شعر ولا شعور ولا إبداع، لقد ذبحتهم سكاكين المال والإنتاج.. واعتل الميزان..
ما لم يمشي الإنسان باتّزان؛ ما لم يبني جسراً من التفاهم والتناغم بين عقله وقلبه في الوجدان.. فإنه سيبقى غارقاً في البؤس والنسيان أو النسوان...
الحل هو بالتأمل.. بالعودة إلى الداخل.. إلى السكينة الساكنة الصافية في الأعماق...
علينا إعادة إحياء القلب الذي تحجّر ومات.. أن نفتح قلوبنا للحب والحياة... أن نعود إلى الطبيعة، إلى أمنا الأرض.. أن نتأمل الحقول والورود والأزهار... أن نتواصل ونتصل بحبٍ مع الأشجار والجبال والأنهار.. مع الطيور والصخور والغيوم.. وأن نتحاور من جديد مع النجوم...

أضيفت في:23-1-2006... صيدلية الروح> فنــون القلـــب
.... إذا وجدت أن الموضوع مفيد لك، أرجو منك دعم الموقع

 

 

© جميع الحقوق محفوظة.. موقع علاء السيد