<<<< >>>>

ما هي جذور هذا الطمع المنتشر؟

إن عجلة الحياة التي تدور وتدور حول محور الطمع، ما هي إلا جحيم داخلي يعيشه كثيرون دون أن يدركون.. حمّى الطمع هي ما يسمم حياتنا.. من بين أضخم الأمراض والمشاكل النفسية التي يعرفها الإنسان، لا يوجد أي مرض أكبر من الطمع... لأن الفكر المشوش برياح الطمع يستحيل أن يجد السلام والموسيقى والسعادة.

 

ذلك الفكر مضطرب دوماً لأنها ليس ذاته، والسلام والموسيقى والسعادة هي نتائج الاستقرار والتصالح مع الذات... الإنسان الذي ليس داخل ذاته هو إنسان مريض، والاستقرار داخل الذات هو أكبر دلائل الصحة.

 

سألتني سيدة شابة: "ما هي جذور هذا الطمع المنتشر؟"

فأجبت: "عقدة النقص... شعور بالفقر"

 

حقاً، يبدو أن عقدة النقص والطمع شيئان متناقضان... لكن هل هما فعلاً متناقضين؟

لا... إنهما نهايتان لشعور واحد.. ما تمثله عقدة النقص من نهاية أولى، هو الطمع ذاته في النهاية الثانية... النقص بحد ذاته يتحول إلى طمع كمحاولة منه للتحرر من النفس...

والطمع هو عقدة نقص ترتدي ثياباً أنيقة.. لكن حتى بعد ارتدائها أجمل وأغلى الثياب، تبقى كما هي لا تنقص ولا تزول... ربما تكون قد غابت عن عيون الآخرين، لكن النفس تبقى تراها دائماً..

 

طبعاً عندما يرتدي المرء بعض الثياب، لن يبقى عارياً بالنسبة للآخرين.. لكنه سيظل عارياً أمام نفسه مثلما كان من قبل... لهذا السبب، نجد أن الأشخاص الذين يُبهرون الآخرين بنجاحاتهم وأطماعهم، يظلون قلقين داخل أنفسهم ويخططون لنجاحات أكبر وألمع... عقدة نقصهم الداخلية لم يدمرها النجاح.. وكل نجاح جديد يأتي إليهم كتحدّي جديد لتحقيق نجاحات أكثر... بهذه الطريقة، تلك النجاحات التي صنعوها كحلول لمشكلتهم، ظهرت وأثبتت أنها مشاكل جديدة...

كلما تعاملتَ مع مشكلة في حياتك بطريقة خاطئة، ستكون هذه هي النتيجة.. تتحول حلول المشاكل إلى مشاكل أكبر.

 

من المهم تذكّر أن تغطية المرض ليست مهرباً منه.. المرض لن يختفي بهذه الطريقة، لكنه فقط يحصل على مزيد من الغذاء.... الفكر المشوش المضطرب بعقدة النقص، يملأ نفسه بالطمع كمحاولة لتغطيتها ونسيانها.. كذلك من السهل أن ينسى المرء نفسه في شعور الطمع.

وهنا، سواء كان الطمع دنيوياً مادياً أو أخرويّاً روحياً ليس هناك فرق... الطمع مخدّر ومُسكر..

 

الطمع يجعل الشخص يسكر، ويجلب له نسياناً عميقاً للنفس.. لكن حالما يعتاد الشخص على هذا المُسكر أو على جرعة ما من مخدّر، فلن يبقى يتأثر به... لذلك سيحتاج الفكر لجرعات أكبر وأقوى من المسكر.. ولذلك تستمر الأطماع بالتزايد وليس لها نهاية.... لها بداية لكن ليس لها نهاية...

لكن عندما يضجر شخص ما من الأطماع الدنيوية، أو عندما يقترب موعد وفاته، عندها ستبدأ الأطماع الدينية!.. إنها أوهام وهمية أيضاً.. تأثيرها المُسكر أعمق، لأن تحقيقها ليس أمراً ظاهراً واضحاً، والخوف من تحطمها أقل أيضاً.

 

طالما بقي الشخص يحاول الانفصال عن حقيقة النفس، فهو بشكل أو بآخر يعاني من حمى الطمع... في طمعه بأن يكون مختلفاً عن النفس يحاول أن يغطيها وينساها... لكن هل تغطية واقعٍ ما تشبه التحرر منه؟ هل تناسي شيء ما والاستغناء عنه متشابهان؟

لا... نسيان عقدة النقص والتحرر منها ليسا متشابهين.. هذه ردة فعل غير واعية وغير حكيمة.. لذلك، مع استمرارك بالعلاج تجد أن المرض يزداد.

كل نجاح للفكر الطماع هو قاتل للنفس، لأنه ببساطة وقود جيد لنار الطمع... نحقق النجاح لكن النقص لا ينتهي.. لذلك، النجاحات الأكبر تصبح لازمة ولا يمكن تجنبها... في الأساس هذا مساوي للزيادة في عقدة النقص.

 

إن تاريخ البشرية بكامله مليء بمثل هذه العقليات المريضة.. ما هي حالة تيمورلنك والاسكندر وهتلر وزعماء العالم اليوم وإبداعات الحكام العرب الجرب؟ لكن رجاء لا تضحك على هؤلاء، لأن الضحك على المريض ليس شيئاً راقياً... ويجب ألا نضحك لسبب آخر، هو أن جراثيم مرضهم موجودة عندنا جميعاً.

كلنا ورثة شرعيون لهم.. ليس فقط أفراد، بل البشرية بكاملها مريضة بالطمع، لذلك يهرب هذا المرض الكبير عن الانتباه ويستمر...

 

برأيي، العارض الحتمي اللازم للصحة العقلية هو حياة خالية من الطمع.. الطمع هو مرض ولذلك يدمر الإنسان.. الأمراض هي دائماً أصدقاء الموت وتسير معه يداً في يد.

الطمع مدمّر.. وهو نوع من العنف... كراهية تأتي من فكر مريض، وغيرة.. صراع مزمن بين شخص وآخر... إنه حرب.

حتى الطمع بالتحرر والخلاص مدمّر أيضاً، لأنه عنف تجاه النفس.. يتحول إلى عدائية مع النفس ذاتها.

الطمع الدنيوي هو عنف ضد الآخرين.. والطمع الديني هو عنف ضد النفس..

حيثما يكون الطمع يلحقه العنف، وذلك أمر آخر ما إذا كان خارجياً أو داخلياً.

 

العنف بأي حالة أو شكل هو شيء مدمّر.. لذلك، فقط العقول السليمة والهادئة هي التي تُنتج أفكاراً متحررة مبدعة وخلاقة... الفكر السليم يتمركز في النفس، والسباق لكي يصبح شيئاً مختلفاً غير موجود.

في دخان وغبار ذلك السباق لا يقدر المرء على معرفة نفسه وواقعه، وعدم معرفة النفس هو الضعف الأساسي المركزي الذي تولد منه جميع عقد النقص.

لا يوجد أي تحرر من هذا الضعف سوى معرفة النفس... ليست الأطماع، بل معرفة النفس وحدها هي التي تحرر من هذا الفقر والعجز، ولأجل ذلك من الضروري جداً إزالة الأطماع من الفكر.

 

حدثت قصة بين تيمورلنك وبيازيد:

هُزم الملك بيازيد في إحدى المعارك، فجلبوه أمام المنتصر تيمورلنك... وعند رؤيته، بدأ تيمورلنك بالضحك عالياً... وهنا شعر بيازيد بالإهانة فرفع رأسه بافتخار وقال: " تيمورلنك، لا تكن فخوراً كثيراً بانتصارك في المعركة... تذكّر، من يضحك على هزيمة الآخرين، يوماً ما عليه أن يذرف الدموع على هزيمته هو".

كان عند الملك بيازيد عين واحدة، وكان عند تيمورلنك رِجل واحدة.... عندما سمع تيمورلنك الأعرج كلمات بيازيد الأعور، ضحك ضعف ما كان يضحك وقال: "أنا لستُ أحمقاً لدرجة أن أضحك لهذا الانتصار الصغير.. أنا أضحك على حالتنا أنا وأنت!... انظر: أنت بعين واحدة وأنا برجل واحدة!... كنتُ أضحك على فكرة تدور في بالي: لماذا يعطي الله الأملاك والممالك لأشخاص ناقصين مثلك ومثلي؟!"

 

أريد أن أقول لتيمورلنك الراقد في قبره: هذا ليس خطأ الله... في الواقع، لا أحد سوى الأعرج والأعور يشوق ويتوق لامتلاك الممالك.

أليس هذا صحيحاً؟ ألن تختفي جميع الممالك والدول والحدود عندما يتعافى فكر الإنسان ويعود سليماً؟

أليس صحيحاً أن أولئك الذين تعافوا قد خسروا دوماً ممالكهم وكراسيهم؟

الإنسان يرغب بالهرب كلما وجد أي نقص داخله.. يبدأ بالركض بالاتجاه المعاكس له تماماً، وهنا يحدث الخطأ، لأن النقص ليس أكثر من مؤشر إلى فقرٍ داخليّ ما...

في العمق، يعاني كل شخص من فقر داخلي... فراغ واحد نشعر به جميعاً... ونقوم بمحاولات لملء هذا الفراغ الداخلي بمكاسب خارجية، لكن كيف يمكن ملء فجوة داخلية من الخارج؟

 

لن يقدر أي شيء خارجي على ملء نقص داخلي... وفوق هذا كله، ألا ترى أن كل شيء موجود خارجنا؟ الثروة، المكانة، السلطة، الشخصية، المقدرة، الدين، الصلاح، الزهد، المعرفة، الله، التحرر... إذاً ماذا يوجد في الداخل؟

ما عدا ذلك الفقر، ذلك الفراغ، ذلك الفناء، لا يوجد أي شيء داخلنا... لذلك، الهرب من ذلك الفناء هو هرب من النفس.. الهرب منه هو هرب من وجود النفس.

 

الطريق العتيق ليس في الهرب منه، بل في العيش معه...

عند ذلك الشخص الذي يحمل الشجاعة ليعيش ويكون واعياً، يتم ملء ذلك الفراغ...

بالنسبة له، ذلك الفراغ يُثبت أنه أعظم حرية وتحرر..

في ذلك الفناء توجد كل الأشياء...

ذلك الفناء هو الوجود ذاته..

ذلك الفناء هو الله والبقاء...

من عرف نفسه عرف ربه

أضيفت في باب:17-4-2014... > رسائل من نور
.... إذا وجدت أن الموضوع مفيد لك، أرجو منك دعم الموقع

© جميع الحقوق محفوظة.. موقع علاء السيد