موقع علاء السيد... طباعة
<<<< >>>>

التشخيـص

اعتاد الممثّلون على المسرح اليوناني القديم ارتداء الأقنعة لكي يصدروا الأصوات من ورائها دون أن يظهروا حقيقتهم أمام الجمهور... وهذه هي الشخصية الوهمية.. الرسمية والشكلية...
الشخصية أمر زائف خادع... مجرد قناع غير قانع... يمكنك ارتداء قناع جميل أو بشع... شخصية وغد إبليس أو ملاك قديس.. ولن يكون هناك أي فرق لأن الشيء الحقيقي هو جوهرك وروحك المختبئة تحت قشورك...
فلتنزع القناع ولتلعب دورك على مسرح الحياة أيها الإنسان... فالرحلة هي من هذه الشخصية... من هذه الكذبة... لتعود إنساناً... خليفة لله والحق.. لا خليفة للدولار والنفاق...
إن الشخصية جزء ضروري من نمو الوعي... إنه كإمساك سمكة في البحر ورميها على الشاطئ... فتسبح عائدةً إليه... لقد عرفت الآن معنى البحر... العيش داخله ووسط أمواجه... هذا البحر الذي يشكل حياتها كلها... لكنها كانت غافلة عنه تماماً...
حتى تدرك شيئاً يجب أن تفقده أولاً.. مثلما فقد آدم الجنة... بعدها أحسّ بقيمتها وأخذ يسعى إليها من جديد...

الغيمة لن تجد ذاتها ما لم تفقدها... وأنت إذا لم تفنى وتتلاشى كالغيمة، فلن تجد بئر ذاتك العميق الذي منه أتيتَ وإليه تعود...
الإنسان في المجتمعات البدائية يملك الجمال، البساطة، والعفوية مثل الأطفال... ولكنه غير واعٍ لما هو عليه... إنه يعيش في غفوة وغفلة عن النعمة... عليه أن يفقد جوهره الحقيقي... أن يصبح مثقفاً... متعلماً... ويقع في علبة دين معين... وفجأة سيشعر وسط المحن والآلام بافتقاد تلك الجوهرة الداخلية وبالحنين إليها.. سينتابه عطش شديد إلى الحقيقة... وعطشه هذا سيقوده إلى الينبوع النابع من الأعماق... لينتقل بذلك من الخلوة والفضوة إلى الجلوة...

كلما ازداد تحضّر البلد وتمدّنه... ازداد الإحساس بالفراغ الداخلي والانهيار الروحي... أما عند العرب قديماً والبدو في البادية والناس البسطاء فلا وجود لذلك...
من النادر جداً أن ينتحر فلاح بسيط أو يصاب بالجنون.. لكنها ظواهر شائعة جداً في الغرب... فالنفوذ الواسع لـ"الحضارة" جعل المفكرين أسيرين ضمن جدرانه... لهذا فإن الانتحار يبدو لهم كشكل من أشكال التحرر والانطلاق.. وإن لم يُقدموا عليه فليس أمامهم سوى الجنون كوسيلة للهروب من الواقع الفارغ التالف..
على الأقل عندما يصبح المرء مجنوناً فإنه سينسى حالة انعدام المشاعر والأحاسيس التي تسمى بالمَدَنيّة... ولكن حينما يشعر الإنسان بأن حياته فارغة تماماً عليه أن يكون على مفترق طرق، كالقابض على الجمر.. وأن يختار بين أمرين.. النار أو النور.. الانتحار أو الاختبار... درب الهلاك أو درب الخلاص... وعليه أن يقرر...

الشخصيات أقنعة خادعة ولامعة.. ولكن داخلها يوجد العطر.. عطر الضمير الكوني في الكائن الكوني.. وهو الوحيد الحقيقي الأبدي.. نحمله معنا منذ ولادتنا حتى مماتنا...
سُئل يسوع: هل تعرف شيئاً عن إبراهيم؟ فأجاب: "أنا الألفا والأوميغا، أنا قبل إبراهيم وبعده، وأنتم مثلي وأكثر..."
قد يبدو لنا هذا تصريحاً مُخالفاً للعقل.. لكنه دلالة هامة... فهناك هوّة كبيرة بين إبراهيم ويسوع... فإبراهيم سبق يسوع بثلاثة آلاف عام تقريباًً.. ويسوع يقول: "أنا قبل إبراهيم وبعده".. لكنه يقصد بقوله هذه الروح الخالدة.. إنه لا يتحدث عن يسوع.. لكن عن المسيح الكوني... يتحدث عن الأبدية.. عن الكونية.. ولا يقصد أي شخص أبداً...

إذا لم تعرف وجهك الحقيقي الأقدم من الزمان، والأوسع من المكان.. من قبل أن يولد أبوك وأمك، والذي سيبقى بعد أن تموت وتهلك.. فلن تصل أبداً.. هذا ما يقوله الحكماء... ولكن ما هو هذا الشيء الحقيقي الموجود دوماً من الأبد وإلى الأزل...؟
يمكننا أن ندعوه عطراً... روحاً.. ضميراً.. إنه سر من أسرار الواحد الأحد.. أبعد من حدود الاسم والجسم والفكر... أنت أتيتَ كعطر، وإذا غادرت كعطر أيضاً دون أن يحدّك المجتمع بشخصية ما فإنك ستبقى بريئاً كالأطفال والحيوانات.. وهذا ما حدث ويحدث...
تذكرت هذه القصة...
في سالف الزمان وُجد طفل صغير في الحادية عشرة من عمره بمكان ما قرب الهمالايا.. نشأ هذا الصغير بين الذئاب... أصبح طفلاً ذئباً.. يبدو أن الذئاب قادرة على تربية الأطفال ولديها الحب والحنان... والأطفال أبرياء... أنقياء... أرواح طاهرة صافية... لم يعرف الزيف والكذب طريقاً إليهم بعد.. هم مثل السمك في المحيط، لا يعرفون من هم ولا يهم هذا الهمّ.. لا يمكن منحهم شخصية إنسانية بعد أن ربّتهم الذئاب.. مات الكثير من الأطفال في محاولات كهذه.. لم يستطيعوا تعلم العادات الإنسانية.. فلقد فات الأوان لذلك، وأصبحوا كالذئاب، ليس لديهم أي فكرة عن الفضيلة والأخلاق، عن الدين والتشريعات، هم غير مسيحيين، غير بوذيين، غير مسلمين.. لا يقلقون بشأن الله.. ولم يسمعوا به... وكل ما يعرفونه هو حياة الذئاب...

إن الشخصية هي مجرد جسر... فلنعبر هذا الجسر بدل أن نبني بيوتنا عليه.. لنخرج من هذه الأقنعة والألقاب والأسماء لنعود شهداءً على الحق.. وحالما تسقط كل تلك الأقنعة والأصبغة سنجد نفسنا الحقيقية الأصلية مختفية وراءها...
في المجتمعات المثالية يجب أن نمنح الأطفال شخصياتهم، وأن نعطيهم أيضاً المفتاح للتحرر منها، وهذا ما نفتقده حالياً..
لقد أصبح الأطفال في عصرنا الحالي معلّبين كالمعلبات، مقيّدين، مسجونين في شخصيات محددة من الأوامر والنواهي، من التحذير والترهيب والترغيب... فلم يبقَ أمامهم أي مجال للتحرر والتجرّد...
وهذا مشابه تماماً لما حصل للنساء في الصين... كانت الفتيات تُجبر على انتعال نعل من الفولاذ، وأين الملاذ... ذلك كلّه لأن الأقدام الصغيرة تثير الإعجاب بلا ألباب يا أصحاب الألقاب، مما يؤدي لضعف العظام وتوقف الأقدام عن النمو فلا تعود المرأة قادرة لا على السير ولا على القيام بأي شيء.. لأن الأقدام صغيرة جداً لا تستطيع حمل الجسم.. وهكذا تتعطل الأقدام وتصبح شبه مشلولة.. ووحدها العائلات الأرستقراطية كانت تستطيع شراء تلك الأحذية.. لذلك فإن الأقدام الصغيرة كانت رمزاً للأرستقراطية والعبودية..

نحن نضحك على ذلك الآن، ولكننا نواصل القيام بالأمر ذاته... حيث تسير النساء في الغرب وفي الشرق والآن عند العرب، بأحذية سخيفة مضحكة.. وبنِعال عالية كناطحات السحاب!! وهذا أمر مناسب للسيرك والعرض، لكن ليس للمشي والركض.. ومع ذلك فهو ينال الإعجاب والاستحسان..
لأنه عندما تسير المرأة بمثل هذا النعل العالي تصبح جذابة جنسياً.. ويصبح السير أصعب، فيجعل الرّدفين يتحركان ويهزّان.. لكن ذلك أمر مقبول ومرغوب والموديل والفيديو كليب هو المطلوب..

ترتدي النساء في كافة أنحاء العالم حمّالات الصدر كشيء عادي.. وهي تجعل المرأة تبدو مثيرة أكثر.. تعطي جسدها شكلاً لا تمتلكه حقيقةً.. النساء في المجتمعات المتحضرة تلحّ بإصرار على ضرورة ارتداء الحمالة.. معتقداتٍ بأنّهن شديدات التديّن والتُقيّ، لكنهن يخدعن أنفسهن ببراعة....

هناك مجتمعات بدائية لديها عادات غريبة عجيبة، حيث يتم تكبير الشفتين عن طريق تعليق أثقال تتدلّى منهما منذ الطفولة.. فتصبحان أكبر وأسمك وأكثر إثارة.. وطبعاً تستطيع الشفتان الكبيرتان المكتنزتان منح قبلة أفضل!!
اعتاد الرجل في بعض المجتمعات البدائية ارتداء ملابس ضيقة حول أعضائه التناسلية ليجعلها تبدو أكبر، وهذا أمر مشابه لارتداء المرأة حمالة الصدر.. نحن نسخر الآن من هؤلاء الحمقى، ولكنها القصة ذاتها... حيث يرتدي الصغار والكبار في كافة أنحاء العالم بنطالاً ضيقاً جداً، ولكن بما أن الأمر مقبول الآن، لم يعد أحد يعيره أي اهتمام...

علينا أن نرى الغلطة بدل أن نتغطى بها.. لنخرج من تلك الملابس التنكّرية والأقنعة الشمعية، ولنودّع قفص العادات والتقاليد إلى آفاق أرحب وأوسع...
من الضروري حتماً أن نمتلك شخصية، ولكن يجب ألا نصبح أسرى في قبضتها وبين مخالبها.. بل يجب أن نستطيع ارتداء هذا القناع ونزعه بسهولة كما نلبس ثيابنا ونخلعها.. والذكي هو الذي يحيا بروحه، ويظل الربان القائد لوجوده، الذي يعرف متى يرتدي قناع الشخصية ومتى ينزعه.. حسبما يتطلب المجتمع..
عندما تكون وسط المجتمعات والمجمعات والمنتجعات لا يمكنك أن تتعاطى معهم بروحك وإلا فإنك ستسبب المشاكل لنفسك وللآخرين.. لأن هذا الصدق الشديد، والصفاء الكبير يمكن أن يكون مؤلماً.. مزعجاً لهم جداً.. ولكن يجب أن يكون بمقدورك أن تتخلى عن كل تلك القشور في منزلك الخاص.. أن تنزع القناع وتمزّق خيوط العنكبوت.. وتلعب وتلهو مع صغارك وأحبابك.. وأن ترتشف الشاي صباحاً في الحديقة فوق العشب الأخضر.. مع النمل.. والعصافير والفراشات... ليس هنالك من داعٍ أن تذهب إلى مكتبك عارياً وتعرض نفسك لكل الناس!... سيكون هذا افتضاحاً وتطرّفاً آخراً...
التطرف الأول هو عدم استطاعة الناس التخلي عن ثيابها حتى في الفِراش.. أما التطرف الآخر فهو تجوّل بعض النساك عراةً في ساحة السوق، والرقص والعري على شاشاتنا... عفواً، فرشاتنا على الشاشة...
والأمر الغريب هو اعتراض هؤلاء النساك أنفسهم على ترك المرأة الغربية لذراعيها عاريين..!
إن الناس يحبّون التقليد لذلك نراهم يتجولون طوال اليوم ببدلاتهم وأحذيتهم وجواربهم في بلد حار مثل الهند وكثير من بلدان العرب... وهذه الملابس الغربية الغريبة.. البنطال الضيق، السترة الصوفية، ربطة العنق، القبعة.. ستظهر بها مهرجاً مضحكاً..
نحن نحتاج لأن نتحرر قليلاً من ملابسنا في البلدان الحارة.. لكن دون أن نتطرف في ذلك لدرجة نجري فيها عراة في ساحة السوق.. فليس من داعٍ أبداً أن نسبب المشاكل لأنفسنا وللآخرين.

لنعد إلى ذاتنا.. ولنكن طبيعيين..عفويين، كالطيور والزهور... ولكن عند اللزوم يمكننا الدخول في لعبة الشخصية.. فالشخصية وسيلة وليست غاية.. الشخصية أمر جيد عندما تتواصل مع الآخرين.. ولكن لكي تتواصل مع ذاتك ومع الرحمن.. عليك الخروج من هذا القناع والتحرر من هذا الوثاق والنفاق... لتعود إنساناً متناغماً مع موسيقى الأكوان..

أضيفت في:6-2-2006... صيدلية الروح> من القِناع إلى القناعة
.... إذا وجدت أن الموضوع مفيد لك، أرجو منك دعم الموقع

 

 

© جميع الحقوق محفوظة.. موقع علاء السيد