موقع علاء السيد... طباعة
<<<< >>>>

عندما تخترق الأبدية عالم الزمن

الزمن هو عالم الوقت الذي نعيش فيه... وهو خط أفقي...

والأبدية هي عالم اللازمن الذي ننمو فيه... وهي خط عامودي..

يمتد ويتصاعد أكثر فأكثر للأعلى... وكأنها استمرار للحظة الحاضرة..

وذلك للحظة نادرة... حين تخترق الأبدية عالم الزمن...

 

هذا يحدث فقط عندما يصل التأمل إلى النضج ويزهر...

 

وذلك عندما تكون أنت قد عرفت من أنت..

وبدأت تختبر وجودك... وتلامس جوهرك..

 

وعندها فجأةً ستصبح واعياً لكونك معبر....

أنت عبارة عن تقاطع طريقين... أفقي وعامودي....

 

طريق أفقي، وبمعنى آخر اعتيادي عادي... لا قيمة له

ويقود في النهاية إلى الموت، فهو يستمر بالسير نحو النهاية..

نحو الموت منذ الولادة..... في كل يوم نحن نقترب أكثر من موتنا

ونسير دوماً إلى قبرنا...

 

سأخبركم هذه القصة الثمينة التي تحكي عن ذلك:

كان هناك ملك إمبراطور عظيم.. وفي إحدى الليالي شاهد الملك في حلمه شبحاً وصار مذعوراً حتى في حلمه وسأله: ما الذي تريده مني؟؟

 

فقال: أنا لم آتي لأطلب منك شيئاً بل أتيت لأعلمك بأنك هذا المساء وفي المكان المناسب عند مغيب الشمس ستلفظ أنفاسك الأخيرة..

وأنا عادة لا أعلم الناس بساعة موتهم لكنك ملك عظيم.. وهذا فقط احترام مني لك...

 

صار السلطان خائفاً جداً لدرجة أنه استيقظ ونهض مسرعاً وهو لا يعلم ما الذي سيفعله، وكل ما 4استطاع التفكير به هو أن يجمع فلاسفة المملكة ومنجّميها وشيوخها ليخبروه بمعنى الحلم..

 

وفي منتصف الليل كان كل الكهنة والحكماء والمنجمين مجتمعين في بلاط الملك الذي روى لهم حلمه منتظراً التفسير...

 

لقد كان المعنى واضحاً لكنهم وضعوا كتبهم وبدؤوا بالجدال بين ما يمكن أن يكون هو المعنى أم لا... لقد ضاع الوقت والشمس قد أشرقت وهم يتجادلون..

 

وكان لدى الملك خادم يعتبره كوالد له.. فوالد الملك قد توفي وهو شاب وعهد لهذا الرجل حماية الملك الشاب والعناية به ومساعدته في شؤون المملكة.. والآن أصبح هذا الخادم كبيراً في السن وقد عومل كوالد لا كخادم... اقترب من الملك وقال له: لدي أمرين لأخبرك بهما ولطالما أصغيتَ إلي، أنا أعلم بأني لست نبياً أو عالم فلك ولا أعي شيئاً من هذا الهراء الذي يجري الآن وتلك الأبحاث بالكتب المقدسة، لكني أرى بأن هناك أمراً واحداً مؤكداً وهو أنه ما أن تشرق الشمس حتى تغرب، وهؤلاء الناس من حولك الذين يسمون بالعلماء لم يصلوا إلى أي نتيجة منذ قرون... سيستمرون في مجادلاتهم ونقاشاتهم ومناقضة بعضهم لذا لا يمكنك أن تأمل بأن يصلوا إلى نتيجة.

 

دعهم لنقاشاتهم... أما اقتراحي فهو بما أنك تملك أفضل حصان في الشرق، لذا اركب حصانك واذهب خارج هذا القصر واهرب بعيداً بأقصى سرعة، فعلى الأقل ما هو جلي ومؤكد أنك لا يجب أن تكون هنا في هذا المكان.. عليك أن تكون بعيداً عن هنا.

 

لقد كانت تلك الإجابة منطقية ومفيدة برغم بساطتها...

 

وغادر الملك مجلسه وعلماءه وذهب إلى جواده.... وقال له: عليك أيها البرق أن تأخذني إلى أبعد مكان عن هذا القصر بأبعد ما يمكنك أن تبلغه...

 

هز الحصان برأسه ووفى بوعده وبحلول المساء عندما بدأت الشمس بالمغيب كان الملك يبعد مئات الأميال عن مملكته وقد دخل حدود مملكة أخرى... كان سعيداً للغاية ونزل عن ظهر حصانه وحاول أن يبحث من حوله عن طعام له ولحصانه فهما لم يأكلا منذ الصباح..

 

قال للحصان: شكراً لك أيها البرق والآن سأبحث لك ولي عن طعام نأكله لا خوف الآن، لقد أريتني اليوم سبب كل تلك القصص التي رويت عنك.. لقد عدوت بي حقاً كالبرق بخفة وسرعة فريدتان..

 

وبينما كان يربط الملك جواده إلى الشجرة.. ظهر الظل مجدداً وقال له: لقد خشيت بأنك لن تتمكن من بلوغ هذا المكان، لكن جوادك رائعٌ حقاً أنا أيضاً علي أن أشكره، فهذا هو المكان والزمان... كنت قلقاً من ألا تأتي وتتمكن من تحقيق ذلك... فقد كنت بعيداً جداً..

وتساءلت كيف لي أن أحضرك إلى هنا!! لكن حصانك قام بخدمة القدر.......

 

إنها قصة فريدة وغريبة، لكنها تريك أنه أينما ذهبت أفقياً بأية سرعة كانت فستنتهي في مقبرة ما...

 

إنه حقاً لمذهل أنه في كل لحظة نحن نقترب من حتفنا أكثر...

حتى وإن لم نتحرك أو نفعل أي شيء وبقينا في مكاننا فأكفاننا تتجه نحونا...

 

الخط الأفقي للزمن بكلمة أخرى هو اختفاء الإنسان...

 

لكننننننننننن إذا كان بإمكانك أن تصل إلى مركز كيانك... إلى السكون...

تلك النقطة الصامتة في صميمك...

 

سترى وتدرك وجود طريقين: الأول أفقي والثاني عامودي...

 

قد تتفاجأ عندما تعلم بأن الصليب المسيحي ليس مسيحياً على الإطلاق..........

إنه رمز يمثل الشيء ذاته الطريق الأفقي والعامودي... لقد كانت يدا المسيح أفقيتان.... أما رأسه وكيانه فباتجاه آخر...

وكذلك عندما أوصانا النبي بأمنا الأرض.. الأفقية.. وعمتنا النخلة.. العامودية...

 

في لحظة التأمل تدرك حالاً بأنه بإمكانك أن تتحرك ضمن اتجاهين إما أفقي أو عامودي...

 

العامودي يتألف من الصمت والنشوة... الأفقي يتكون من اليدين والعمل والدنيا....

 

ما أن يعرف الإنسان هذا المفترق من الطرق في داخله، لن يتمكن من تجاهل وجود هذا المسار العامودي بعد ذلك...

 

لن يتمكن من ألا يهتم به...

 

الأفقي طريق معروف بالنسبة لك، لكن العامودي يفتح لك باباً نحو الأبدية حيث لا يوجد موت... يصبح فيه الإنسان تدريجياً جزءاً من الكل... من الوجود.... ويفقد كل القيود والحدود حتى الجسد...

 

هناك حكمة قديمة تقول: "الولادة مؤلمة، والحياة مؤلمة، والموت مؤلم".

 

ومعناها أن التحرك ضمن مسار أفقي يجعل الإنسان تعيساً باستمرار...

يعيش في ألم ليل نهار..

 

فحياتك لا يمكن أن تكون رقصة وفرحاً واحتفال... إذا كانت تلك هي الحياة...

 

عندها سيكون الانتحار هو الحل الأفضل...

 

وهذا ما قامت عليه الفلسفة الوجودية في الغرب، حيث وجدوا بأن الحياة بلا معنى... أي لا قيمة لها... ومن منظور أفقي هي فعلاً كذلك... لأنها مؤلمة ومليئة بالوحدة والمرض والآفات والشيخوخة... وأنت مسجون ضمن جسد صغير بينما يمتد وعيك وروحك لتملأ الكون بأكمله...

 

عندما نكتشف البعد العامودي يبدأ المرء يرتقي بمسار صاعد.. وهذا الدرب العامودي لا يعني أنك ستنكر هذا العالم لكنه بالتأكيد يعني بأنك لم تعد من هذا العالم...

 

لأن هذا العالم سيفقد أهميته بالنسبة لك... وهذا لا يعني بأنه عليك أن تعتزل العالم وتتزهد وتهرب بعيداً إلى الجبال والمعابد...

 

بل ببساطة يعني أنه أينما كنت الآن من هذه اللحظة... ستبدأ بعيش حياة داخلية لم تكن ممكنة لك من قبل...

 

فمن قبل كنتَ مندفعاً نحو الخارج، أما الآن فقد أصبحت طاقتك موجهة نحو الداخل.. كنت منبسطاً أما الآن انطويت لداخلك حيث فيك انطوى العالم الأكبر..

 

وأقل ما هنالك لتقلق بشأنه هو جسدك... فأنت الآن تعرف كيف تتعامل معه..

 

طالما ذكرى أنك "لستَ الجسد" حاضرة وموجودة لديك دوماً....

 

لكن من الممكن استخدام الجسد بطرق عديدة ليسير ضمن المسار العامودي... فبمجرد أن تخترق تلك السرمدية الأبدية بنورها عتمتك في عالم الزمن.. فقط شعاع واحد يكفي لانتشالك للنور والاستنارة...

 

قد تبدو الشخص نفسه لكنك لن تكون الشخص ذاته بعد ذلك....

 

ولأولئك الذين يملكون عيوناً صافية لن تبدو كذلك.... وعلى الأقل لن تبدو كذلك لنفسك...

 

فلن تكون الإنسان ذاته بعد ذلك أبداً....

 

ستكون أنت في العالم لكن العالم لن يكون فيك....

 

ستتبخر كل تلك الطموحات.. الرغبات.. المنافسة.. الغيرة... دون أن تحتاج لبذل أي جهد كي ترمي بها.. فقط بمجرد حركتك بطريقة عامودية.. ستبدأ تلك الأشياء بالسقوط منك والاختفاء لوحدها.. لأنها ببساطة لا تنتمي إلى خط مسيرة الحياة العامودية...

 

في الظلمة في الحياة الأفقية سترى الجميع في منافسة.... في سباق....

 

الجميع ممتلئون بالرغبة.. بالتسلط وحب السيطرة.. كل شخص ممتلئ بالرغبة ليصبح شخصاً ما...

 

في المسار العامودي كل تلك الحماقات تختفي ببساطة... وبهذا تصبح أنت شعاعاً رقيقاً من النور ومثل زهرة اللوتس... تعيش في الطين لكن الطين لا يلامسها أبداً...

 

ستكون في العالم لكن العالم لن يمتلك أي تأثير عليك... بل على العكس أنت ستمتلك تأثيراً على هذا العالم...

 

ليس عبر انضمامك إلى منظمة إنسانية أو خيرية أو ببذل جهد أو القيام بشيء ما...

 

بل فقط بوجودك بحضورك... بنورك.. بصفائك... تلك الأزهار التي كلما نمت في داخلك نشرت عبيرها من حولك... لتغني عالمك.... ذلك العطر سيصل ليلامس أصحاب القلوب المفتوحة... ويخيف أولئك الذين عاشوا مغلقين قلوبهم... مغلقين كل النوافذ والأبواب... هؤلاء لن يحاولوا أبداً الاحتكاك مع شخص كهذا.....

 

ولكي يقنعوا أنفسهم بسبب خوفهم من الاقتراب منه والتفاعل معه سيجدون آلاف الأعذار... آلاف الكذبات والحجج... لكن السبب الجوهري هو أنهم لا يريدون أن يُفضحوا وينكشفوا للإنسان الذي يتحرك ويعيش بشكل عامودي لأنه سيكون تماماً كالمرآة... إذا قمت بالاقتراب منه سترى وجهك الحقيقي.... سترى قبحك... سترى طموحاتك المستمرة وحاجتك... سترى دلو الشحاذة الذي تحمله....

 

 

ربما ستجعلك هذه القصة تدرك ما أرمي إليه:

 

في الصباح الباكر كان هناك شحاذ يحمل قِدرَ الشحاذة ويسير في المدينة فوصل إلى حدود قصر الملك ودخل إلى حديقته...

 

وكان الملك قد اعتاد القيام بنزهة صباحية يمشي فيها في حديقته وإلا لكان من المستحيل مقابلته... وخاصة إذا كنت شحاذاً...

 

فكل حاشية بلاطه ستمنعك من ذلك...

 

لذا كان الملك عندما يريد البقاء لوحده في الطبيعة يختار وقتاً مبكراً جداً في الصباح ليمشي في الحديقة لوحده وينهل أكثر قدر ممكن من الجمال والحياة المشرقة المزهرة من حوله...

 

حيث صادفه الشحاذ هناك...

 

قال الملك للشحاذ: "هذا ليس وقتاً مناسباً للقاء أحد... فأنا لا أقابل أحداً في هذا المكان"

 

قال المتسوِّل: "أنا مجرد شحاذ وحاشيتك مكونة من عقول متحجرة صعبة جداً لذا من المستحيل لمتسولٍ مثلي أن يقابلك... ولهذا أنا مُصرّ على أن تسمعني"....

 

لم يكن الملك يفكر إلا بطريقة يتخلص بها منه... فقال له: " قل ما الذي تريده بسرعة... فقط قل ما هو وستحصل عليه فوراً... لكن لا تخرِّب علي سكوني وتقطع خلوتي في هذا الصباح الهادئ.."

 

أجاب الشحاذ: "أعد التفكير جيداً أيها الملك قبل أن تقدم لي هذا العرض...."

 

فقال الملك: "يبدو أنك رجل غريب الأطوار، ففي البداية دخلت حديقة قصري دونما استئذان، ومن ثم أصريت أن تحظى بانتباهي وإصغائي والآن أنا أقول لك أطلب ما شئت.. فقط اطلبه ولا تقطع علي سكينتي وصمتي وسلامي... فتجيبني هكذا؟!"

 

ضحك الفقير وقال: "السلام والسكينة التي من الممكن لأحد ما أن يفسدها ليست سكينة... والصمت الذي من الممكن لأحد مقاطعته وتخريبه هو مجرد وهم أو حلم.... ليس حقيقة بعد"

 

عند تلك اللحظة التفت الملك لينظر إلى ذلك الشحاذ فقد قال كلمات جوهرية حقاً.. فكر الملك في نفسه قائلاً: "هذا الرجل لا يبدو متسولاً عادياً وهذا مؤكد"..

 

فقال الشحاذ مجدداً: "أريدك أيها الملك أن تعيد النظر بعرضك لي لأن ما أريده منك هو أن تملأ لي قِدري هذا بأي شيء، وعندها سأغادر لكن عليك أن تملأه أولاً"

 

ضحك الملك وقال: "إنك رجل مجنون حقاً، هل تعتقد بأنه لا يمكنني ملء قدرك هذا الذي تتسول به؟؟"

 

فنهض الملك ونادى حاجبه وقال له: "خذ قدر هذا الشحاذ واملأه بالألماس والأحجار الكريمة"...

 

لم يكن الحاجب يملك أدنى فكرة عما يجري، فلم يحدث من قبل أن ملأ قدراً لشحاذ بالألماس والمجوهرات..

 

قام المتسول بتذكير الحاجب والملك قائلاً: "تذكر.. لن أتحرك خطوة من هنا قبل أن يمتلئ هذا القِدر"....

 

لقد كان هذا تحدياً بين الملك والفقير... وهنا تبدأ القصة الغريبة...

 

فكلما دخل الألماس في القدر ووصل لقاعه اختفى تماماً.... أصيب الملك بحرج شديد لكنه قال: "أياً كان الذي سيحدث، حتى وإن ضاعت كنوزي كلها واختفت.. لقد هزمتُ أعظم الملوك ولن أُهزم من قبل شحاذ"...

 

واختفت حقاً كنوز الملك بأكملها.... كان الخبر قد انتشر في أرجاء المملكة ووصل إلى العاصمة وآلاف الناس قد تجمعوا ليعرفوا ما الذي كان يحدث.... فهم لم يروا الملك في تلك الحالة من التوتر من قبل... لقد كان منهاراً....

في النهاية، وعندما لم يبق شيء من كنوز القصر وبقي الوعاء فارغاً... انحنى الملك عند قدمي الشحاذ وقال له: "أرجوك أن تغفر لي... لأنني لم أفهم.. لم أفكر يوماً في تلك الأشياء.. لقد حاولت ذلك لكنني الآن حقاً لا أملك شيئاً لأقدمه لك.. إن كنت قد قبلت اعتذاري وسامحتني حقاً فأرجوك أن تخبرني ما الذي حدث.. ما هو سر هذا القدر الذي تتسول به؟... لقد كان من الممكن لبعض المجوهرات أن تملأه لكنه أخذ كل ممتلكات المملكة ولا يزال فارغاً".

 

ضحك الفقير وقال: "لا تخف.. فهذا ليس وعاءً سحرياً... كل ما في الأمر أني وجدت في طريقي جمجمة لرأس إنسان فقمت بصنع وعاء للتسول منها.... لكنها لم تنسَ عادتها.... فهل لاحظت يوماً وعاء التسول الذي تحمله في رأسك؟ أعطه أي شيء وسيطلب المزيد دوماً، إنه لا يعلم سوى لغة واحدة (المزيد)... لأنه فارغ دوماً... وفقير دوماً..."

 

في الحياة الأفقية لا يوجد سوى المتسولين الفقراء... كلهم يركضون خلف المزيد والمزيد... وتلك المزيد لا يمكن أن تشبع يوماً...

 

نعم فأنت ستحصل على ما ترغب به وستصل للمكان والموقع الذي تريده في الحياة، لكن في اللحظة التي تحصل فيها عليه سيكون هناك مركز أعلى لتطمح إليه... قد تشعر بالسعادة للحظات ثم تعود لنفس الإحباط ونفس الطريق والسباق لأجل المزيد..

 

فلا يمكنك أن ترضي أو تشبع وتلبي فكرة أو مفهوم المزيد... تلك حقيقة جوهرية أنه ليس من الممكن إرضاء تلك الفكرة....

 

وهذا هو المسار الأفقي إنه طريق المزيد والمزيد والمزيد.......

 

فما هو الطريق العامودي؟ أن تكون أخف.. فأخف.. فأخف... أرق.. فأرق...

 

إلى أن تصل إلى الفناء.. الفراغ المطلق اللانهائي...

 

إلى أن تكون لا أحد.... فقط مجرد توقيع... مجرد أثر ليس حتى على الرمل بل على الماء... أنت لم تفعل شيئاً له لكنه ببساطة اختفى...

 

والإنسان الذي يعيش بشكل عامودي هو العابد الحقيقي... إنه يعيش في قمة السعادة لمجرد أنه لا أحد...

 

إنه مفعم بالرضى والبشاشة لصفائه الداخلي.. لفنائه...

 

لأن الفراغ أو الفناء فقط بمقدوره أن يكون صافياً نقياً تماماً..... راضياً بشكل تام عن عريه وتجرده..

 

لأن الفناء .. اللاشيء.. هو أن تكون متناغماً مع الوجود... راضٍ.. حاضر.. موجود...

 

وعندما يحدث هذا الذوبان مع الوجود لن تعود موجوداً بعد الآن حسّياً.. أي عبر حواسك الخمسة فقط...

 

أنت الآن لاشيء ولأول مرة كل شيء.... لست موجود بل الوجود... أبعد النجوم تسكن فيك... ففناؤك بإمكانه احتواؤها....

 

الأزهار.. الشموس والأقمار... كلها... موسيقى الكون ترقص في داخلك... فأنت لم تعد موجوداً بأناك الصغرى وشخصيتك بل بكينونتك.... بكيانك... لقد اختفت الأنا منك... لكن هذا لا يعني بأنك أنت اختفيت.. بل على العكس في اللحظة التي تختفي فيها تلك الأنا تظهر أنت... وإنها لنشوة عظيمة أن تكون موجوداً بلا شعورٍ بالانفصال... بلا حدود... بلا أنا وأنت... بلا أي شخصية..

 

دون الحاجة للسؤال عن أي شيء... فما الذي هناك بعد لتطلبه؟ لديك الآن اللاشيء الذي ينطوي فيه كل شيء...

 

حيث لا نزاع ولا سباقات فلاشيء بإمكانه أن يقهرك... ولاشيء لديك لينتزعه أحدهم منك...

 

وعندها ستكون تلك الطيور المغردة من حولك ليست من حولك... ليست خارجك... قد تبدو أنها في الخارج...

 

لأن هذا الجسد يخلق حاجزاً... وحدوداً مرئية...

 

لكنك في المسار العامودي ستصبح موجوداً أكثر فأكثر كحضور وأقل فأقل كجسد.... وسيتلاشى انتماؤك للجسد تماماً....

 

لن تعود محدوداً به أو ضمنه... لن تبقى مشغولاً أو مأخوذاً به بعد ذلك...

 

في الفناء كل تلك الطيور والأزهار والأشجار وهذا الصباح الجميل سيكون بداخلك...

 

في الحقيقة.... بعد ذلك لن يكون هناك خارج أو محيط فكل شيء صار واحداً بنظرك... كل شيء هو تجلّي لك.. لبصيرتك...

 

هل من الممكن أن يكون هناك حياة أكثر غنىً من أن تحتوي كل شيء بداخلك؟

 

عندما تكون الشمس.. القمر.. النجوم.. الفضاء.. اللانهاية .. والأبدية في داخلك... فما الذي ترغب به بعد؟...

 

هذا هو تماماً معنى الاستنارة.... أن تصبح غير موجود كأنا.. فيصير محيط الوجود جزءاً منك... تذوب به فيذوب بك...

 

 

الحكيم الصوفي "كبير" كان غير متعلم لكنه كتب العديد من العبر والأقوال في غاية الأهمية.... وأحد تلك الأقوال قام بتصحيحها قبل موته..

 

فعندما كان شاباً كتب هذه العبارات الجميلة التي تقول: "تماماً كما تسقط قطرة الندى عن سطح ورقة زهرة اللوتس في الصباح الباكر.. وهي تبرق كحبة اللؤلؤ لتغرق في المحيط... هذا ما قد حدث لي"

 

ويتابع قائلاً: "لقد كنت أبحث عن صديق لي، وبدلاً من أن أجد نفسي، لقد غرقت في الكون، قطرة الندى ذابت واختفت في المحيط"..

 

وتماماً قبل أن يموت عندما كان يغلق عينيه للمرة الأخيرة سأل ابنه كمال طالباً: "أرجوك يا كمال أن تغيّر لي عبارتي"

 

فقال كمال: "لطالما شككتُ بأن هناك خطأ ما في تلك العبارة"...

 

وأراه كتاباته حيث قام كمال بتصحيح تلك العبارة من قبل، نعم لقد تم تصحيحها تلقائياً قبل أن يكتشف كبير ويلاحظ ذلك...

 

 لذلك سمى كبير ابنه بكمال... قال له: "أنت معجزة... الكمال يعني الإعجاز..."

 

وكمال كان حقاً معجزة..... لقد غيّر السطر الذي أراد كبير تغييره ليصبح: "صديقي لقد كنتُ أبحث وألتمس نفسي، وبدلاً من أن أجد نفسي وجدت الوجود بأكمله، لم تذب قطرة الندى في المحيط لكن المحيط ذاب في قطرة الندى"....

 

وعندما يذوب المحيط في قطرة الندى... ستفقد قطرة الندى حدودها وشخصيتها... لاشيء غير ذلك...

 

في الطريق العامودي أنت تصبح أقل فأقل فأقل حتى يأتي اليوم الذي تختفي فيه ولا تعود موجوداً كأنا بل كوجود بلا حدود...

 

 

كان لدى أحد معلمي التأمل واسمه "سيف" عادة سخيفة... لكنها جميلة...

 

ففي كل صباح عندما يريد الاستيقاظ وقبل أن يفتح عينيه يقول: "سيف.. ألا تزال هنا؟"...

 

مرةً قال له أحد تلامذته: "ما نوع هذا الهراء الذي تقوم به؟"..

 

أجاب سيف: "أنا أنتظر اللحظة التي سيكون فيها الجواب: لا...

...الوجود نعم أما سيف فلا"

 

تلك هي أعظم قمة ونهاية ممكن للوعي أن يبلغها...

 

تلك هي النعمة والبركة التي لا تنضب...

 

وإلى أن نبلغ تلك النعمة سيبقى الإنسان يزحف في الظلام.. أعمى.. تائهاً في الطرقات.. تعيساً يعاني ويتألم...

 

قد يقوم بتجميع الكثير من المعلومات والمعرفة.. قد يصبح خريجاً وجامعياً مهماً... لكن ذلك لن يفيده في شيء... ولن ينير جهله...

 

فقط شيء واحد... شيء بسيطٌ للغاية هو جوهر تجربة التدين... وذلك الجوهر هو التأمل...

 

تأمل ساعة خير من عبادة سبعين عام...

 

فقط عندما تتجه نحو الداخل... واعلم أنه من الصعب أن تخرج من زحمة أفكارك.... لكنك لستَ فكرة...

 

وبإمكانك أن تخرج من بين أفكارك... بإمكانك أن تخلق مساحة فاصلة بينك وبينها...

 

وكلما نمَت المسافة أكثر... ستبدأ الأفكار بالتساقط... كأوراق الأشجار عندما تموت وتسقط في الخريف...

 

لأنك أنت ومدى تعلقك بأفكارك وتفاعلك معها هو من يغذي تلك الأفكار...

 

فهي في الحقيقة ليست موجودة.... هل رأيت يوماً فكرة موجودة لوحدها تقف هناك بمفردها دون صاحب؟؟!!

 

فقط جرّب أن تكون حيادياً وغير مبالٍ بها.... والمسافة بينكما ستولد وستأتي مرحلة تتوقف فيها عملية تغذية الأفكار تماماً...

 

ستختفي الأفكار ببساطة كفقاعات الصابون...

 

وفي اللحظة التي تختفي فيها كل الأفكار ستجد نفسك في نفس الموقف تسأل:"يا فلان... هل لا زلتَ هنا؟؟؟"

 

وستنتظر تلك اللحظة الرائعة، تلك الفرصة العظيمة النادرة عندما سيكون الجواب: "لا... من هو فلان؟"

 

ذلك الصمت.. الفراغ.. هو التأمل....

 

وهو ليس موهبة... فلا يمكن للجميع أن يكونوا بيكاسو أو مايكل أنجلو أو طاغور.. فهؤلاء لديهم موهبة خاصة جعلتهم هكذا...

 

لكن يمكن للجميع أن يكونوا مستنيرين لأن ذلك لا علاقة له بالموهبة أو المَلَكة...

 

بل هو من طبيعتك.. إنه فطرتك الأصيلة الأصلية... التي لست واعياً مدركاً لها بعد... وستبقى غير واعٍ ومدرك لها إذا بقيت محاطاً بالأفكار..

 

الوعي لحقيقتك التي لا تفنى سينبع ويظهر لك عندما لا يكون هناك عائق يمنعه من ذلك...

 

أي عندما لا يكون هناك ما يحيط بك ويطوّقك مثل غمامة الأفكار..

 

المسار العامودي شيء نادرٌ حقاً... ربما يكون الشيء الوحيد النادر في الوجود لأنه يأخذك في رحلة الخلود والأبدية التي لا تنتهي ولا تبدأ....

 

والورود التي تزهر في تلك الدروب العامودية لا يمكن للفكر تصوّرها... والتجارب التي تحدث ضمن هذا المسار ليست قابلة للشرح أو التفسير....

 

لكن بطريقة غريبة حقاً يصبح الإنسان نفسه هو الشرح... يصير هو بحد ذاته التعبير الحي عن التجربة...

 

بمجرد النظر في عينيه سترى الأعماق في قلبه...

 

وأياً كان ما يقوم به فهو يُظهر جمال سلوك الدرب العامودي...

 

حياته كلها ستكون مفعمة بالنبض والإشراق مولدةً حوله حقلاً من الطاقة ومناخاً حياً يحيط به أينما حل...

 

أشعر بالأسى على حال هؤلاء اللذين حددوا وحدّوا حياتهم وفكرهم وأفقهم ضمن عقيدة معينة.. واتخذوا سياجاً من أفكارهم...

 

وأولئك اللذين فتحوا حدودهم وأزالوا حواجزهم... ولم يتحيزوا باتجاه شيء أو يصنفوا أنفسهم تحت أي قائمة أو منظومة... هؤلاء سيشعرون فوراً بهذا النبض... بهذا الإشراق والوهج....

 

سيحسون بنوع فريد من التناغم من الرقصة بداخلهم... وهذا ما يمكن أن يحدث بين قلب إنسان حر يحلق عامودياً وقلب منفتح لإنسان حقيقي...

 

يسير على الدرب لكنه لم يحلق عامودياً بعد...

 

وفي اللحظة التي يحدث فيها هذا الانسجام والتوافق، ستبدأ أنت تلقائياً بالتحرك عامودياً والخروج من الدائرة....

 

وتلك هي مجرد كلمات لأشرح بها ما لا يمكن شرحه بالكلمات....


thanks to Sandy

أضيفت في:25-5-2012... زاويــة التـأمـــل> تأمل ساعة
.... إذا وجدت أن الموضوع مفيد لك، أرجو منك دعم الموقع

 

 

© جميع الحقوق محفوظة.. موقع علاء السيد