موقع علاء السيد... طباعة
<<<< >>>>

ديوجين الكلب الحكيم

عاش ديوجين في فترة 325 إلى 400 قبل الميلاد، ولد في المستعمرة اليونانية القديمة التي صارت تركيا اليوم، وعاش حياته في أثينا.

كان في البداية تلميذاً عند Antisthenes وهو التلميذ الوفي لسقراط، الذي آمن بأن السعادة يمكن الحصول عليها فقط من خلال الاستقلال الكامل، ونبذ المتع، والعيش بدون أشياء وفي فقر شديد.

رفض ديوجين العادات الاجتماعية والترف ووسائل الراحة وقرر أن يعيش في برميل قديم ويشحذ طلباً للعيش، وقام برمي حتى أدوات الطعام وأكل وشرب بيديه... وقد أصبح معروفاً لأنه كان فيلسوفاً غير تقليدي ومثيراً للجدل.

كان ديوجين يحمل دائماً مصباحاً من الزيت حتى في وضح النهار، ليبحث عن إنسان صادق... أراد بسلوكه إظهار النفاق عند عامة الناس، بعيشه حياةً من الصدق والاستقامة، وصار يعتبر من أحد مؤسسي مذهب التهكّم (الكلبيين) الفلسفي... وكان هدفه جعل الناس يشاهدون كم حياتهم الظاهرية مريضة وكم المجتمع مزيف وكاذب.

الاسكندر العظيم ملك مقدونيا وقاهر الإمبراطورية الفارسية وأعظم عبقري حربي في التاريخ، أعجب بديوجين وسأله إذا كان بإمكانه فعل أي شيء لأجله، فأجاب ديوجين: "قم فقط بالابتعاد قليلاً لأنك تحجب نور الشمس عني"... كان ديوجين هو الشخص الوحيد الذي سخر من الاسكندر العظيم وبقي على قيد الحياة!

لم تنجو أي من كتابات ديوجين رغم أنه كتب أكثر من عشر كتب وعدة روايات.. ومات في Corinth في اليونان.

 

اعتاد ديوجين على العيش عارياً تقريباً... وكان رجلاً جميلاً بصحة رائعة... حتى أن الاسكندر غار منه، كان عنده كل شيء لكن جمال ديوجين وجسده اللامع مثل الرخام وصلابة روحه مثل خشب السنديان...

في أحد الأيام، كان مستلقياً على ضفة النهر وفي مكان استراحته.. كان هناك أربعة لصوص يراقبونه.. في تلك الأيام القديمة، وتقريباً في كل أنحاء العالم، كان يتم بيع وشراء الإنسان... النساء خاصة كان لهم سعر جيد، والرجال الأقوياء الأصحاء أيضاً لهم سعر جيد... كانت فكرة العبيد مقبولة تماماً في كل العالم... هكذا كان أولئك اللصوص الأربعة يعملون في مهنة خطف الناس وبيعهم في سوق العبيد.

عندما رؤوا ديوجين تناقشوا فيما بينهم: "هذا الرجل سيجلب سعراً جيداً، ربما أفضل سعر في السوق حتى الآن.. لكنه يبدو رجلاً قوياً جباراً حتى بالنسبة لأربعة رجال... سوف يقتلنا إذا حاولنا الإمساك به، يبدو أنه خطير جداً".

 

كان ديوجين يصغي لحديثهم لأنهم كانوا يتناقشون بالقرب منه وراء الشجيرات.. فصرخ عليهم قائلاً: "أيها الأغبياء! ليس عليكم القيام بأي شيء! اخرجوا فقط واتبعوني!"

قالوا: "لكن إلى أين؟؟"

أجاب: "إلى السوق حيث تريدون بيعي! لا يوجد حاجة للإمساك بي.. فأنا قادم من تلقاء نفسي.. لتكن هذه أيضاً تجربةً لي.. على كل حال أنا لا أنفع لأي شيء".

أصبح اللصوص خائفين جداً برؤيتهم لغرابة هذا الرجل... قالوا لأنفسهم: "حتى اللحاق به شيء خطير... ربما يستدير أو يقفز ويهجم على واحد منا".

قال ديوجين: "لا تخافوا! فقط كونوا قريبين... هل أنتم تأخذوني إلى السوق، أم أنا الذي آخذكم؟"

اقترب اللصوص منه بخوف كبير.. وفي السوق حيث كان الرجال والنساء مقيّدين للبيع، قفز ديوجين على الطاولة وصرخ على الحشود التي أتت لشراء الناس: "يوجد هنا سيّدٌ للبيع! هل هناك أي عبد مستعد لشرائه؟"

ساد صمت عظيم.. لقد كان الرجل نوراً من الجمال المتوهج بالحق... حتى الملوك أتوا للشراء لكن كان عليهم التفكير مرتين قبل شراء هذا الرجل، فقط يكون خطراً أو شرساً لأنه قفز على الطاولة وأعلن عن نفسه أنه سيد للبيع، وهل هناك عبد مستعد للشراء!

 

في النهاية، تجرأ أحد الملوك على شرائه وقال: "لمن سأعطي ثمنك من المال؟"

أشار ديوجين إلى اللصوص الأربعة الذين كانوا مختبئين بين الحشود وقال: "أعطي المال إلى هؤلاء الأربعة، فهم من جلبني إلى هنا... واجلب عربتك الملكية إلى هنا لكي أقدر على الدخول إليها".

والآن ليس من الطبيعي أن يعطي العبيد أوامراً للملوك، لكن حتى هذا الملك شعر بالضعف في قلبه.. أمر السائق أن يجلب العربة الملكية إلى جانب ديوجين، وعندها قفز إليها وجلس قرب الملك، وكان الملك يرتجف من الخوف... لقد اشترى مصيبة غير ضرورية.. يستطيع هذا الرجل بسهولة أن يمسكه من رقبته ويرميه خارج العربة.. وقال لنفسه: "لقد اشتريتُ سيداً بدل أن أشتري عبداً.. كان معه حق".

لكن ديوجين قال: "لا تخف.. لن أفعل أي شيء من الأشياء التي تفكر بها... أنا إنسان محب للسلام.. دعنا نضع اتفاقاً بيننا: يجب عليّ ألا أزعجك، ويجب عليك ألا تزعجني".

وافق الملك تماماً وقال: "أنا مستعد فوراً.. لن أزعجك مطلقاً... يمكنك الحصول على جزء من قصري لتسكن فيه، وسيتم تأمين كل حاجاتك... لكن رجاء حافظ على الاتفاق ولا تزعجني.. أنا رجل ضعيف القلب كثيراً.. ويبدو أنك خطير جداً".

قال ديوجين: "لا تقلق.. بالنسبة للقتل، أنا ضده تماماً... ولا أحب إزعاج أو ملاحقة أي شخص.. سوف تجدني معلماً عظيماً لك، ويمكنك تعلّم الكثير... لقد اشتريتَ المعلم الوحيد الذي تم بيعه على الإطلاق، وقد قمتُ أنا ببيع نفسي... في الواقع، أنا بحاجة لبعض التلاميذ المريدين، الآن أنت وزوجتك وإخوتك وأولادك ستكونون جميعاً تلاميذ عندي... موافق؟"

 

كانت العربة تسير في الغابة متجهة إلى مملكة الملك... وعدم موافقة رجلٍ مثل هذا كان شيئاً خطيراً، لأنه لم يكن في العربة سوى الملك والسائق وديوجين الذي يكفي لأكثر من أربعة رجال سوية!... هكذا وافق الملك تماماً على كل ما قاله ديوجين...

مع اقترابهم من حدود المملكة، قفز ديوجين خارج العربة وقال للملك مودعاً: "لقد كنتُ أمزح معك فقط! كان عليّ أن ألعب هذا الدور لأجل أولئك اللصوص... والآن لقد وصلتُ إلى نهري... إذا أردتَ يوماً ما أي نصيحة فأهلاً بك... احتفظ بعنواني.. هذا هو النهر، وهل ترى ذلك الكلب؟"

 

كان عند ديوجين كلب وهو صديقه الوحيد.. وبسبب هذا الكلب الصديق صار اسمه ديوجين الكلب الحكيم..

صداقته مع الكلب حدثت أيضاً بطريقة مميزة... في أحد الأيام كان يركض عطشاً باتجاه النهر، حاملاً صحن الشحاذة مثل الحكيم بوذا.. كان عطشاً كثيراً لكن مع اقترابه من النهر أتى كلب راكضاً وسبقه وبدأ يشرب.

قال لنفسه: "يا الله! لماذا أحمل إذن هذا الصحن؟ الكلب في حالة أفضل مني!"... بعدها رمى الصحن في النهر وتعلّم طريقة شرب الماء مثل الكلب.

وعندها أصبح ذلك الكلب صديقاً لديوجين، الذي تشارك معه في أي طعام يحصل عليه... كان الكلب مرافقه الوحيد وكان يتحدث إليه.. حتى عندما كان الاسكندر واقفاً بقربه كان يسخر منه... قال له الاسكندر: "أنا ذاهب لأحتل وأقهر العالم بكامله".
ديوجين، بدل أن يجاوبه، نظر إلى الكلب وقال: "هل سمعت؟ هذا الصديق يريد أن يقهر العالم!"... بعدها قال للاسكندر: "سوف تموت بالتأكيد قبل أن تقهر العالم... إذا كنتَ حكيماً مثل هذا الكلب، ستتوقف وترتاح هنا، لأنك ماذا ستفعل بعد أن تقهر العالم؟"

كان على الاسكندر أن يوافق ويقول: "طبعاً... بعد أن أقهر العالم سوف أجلس وأرتاح وأسترخي تماماً".

قال ديوجين: "انظر إلى كلبي كم هو مرتاح ومسترخي! يمكنك أن تجلس على ضفة النهر المقابلة ليس عندي مانع، فأنا لا أملك النهر ولا أعرف من يملكه.. لكنني أعيش مع كلبي هنا وأهلاً بك معنا... لا يوجد حاجة لصنع كل هذه المشاكل لكي تقهر العالم لمجرد أن ترتاح، لماذا لا ترتاح منذ الآن؟"

قال الاسكندر: "أستطيع أن أفهم منطقك ولا أقدر أن أردّ عليه.. لكنني الآن بعد أن بدأتُ رحلتي لقهر الدنيا، عليّ أن أذهب لأحقق رغبتي"

قال ديوجين: "الأمر يعود إليك، لكن تذكر في اليوم الذي ستموت فيه أنني قلتُ لك: الحياة قصيرة جداً والعالم كبير جداً.. غالباً أنك ستموت قبل أن تقهره كله"

كان ديوجين محقاً، فقد مات الاسكندر في عمر 33 سنة فقط، وكانت آخر الذكريات في فكره هي ديوجين: "لقد قال لي ذلك الحكيم حقيقةً حقّة... حتى أن صديقه الكلب وافقه وهزّ بذيله قائلاً: أنت على حق، إذا أراد أن يرتاح فعليه أن يبدأ يرتاح الآن"

 

تاريخياً، لم يكن ديوجين تابعاً كثيراً لخط الفلاسفة الإغريق الكبار أمثال سقراط، فيثاغورث، أناكساغوراس، أفلاطون، أرسطو، وهرقل.... لا أحد يذكر اسم ديوجين كثيراً لسبب بسيط هو أنه لم يكن شخصاً يأخذ الدنيا بجدّية.

وجد ديوجين مصباحاً قديماً مرمياً في مكان ما، فملأه وأشعله، وبقي يسير برفقة كلبه ويضيء المصباح ليل نهار... يسأله الناس: "هذا غريب.. لماذا تحمل مصباحاً مضيئاً في ضوء النهار الساطع؟"... ليجيب ديوجين: "أنا في عملية بحث عن إنسان حقيقي... ولأجل أن أنظر في عينيه أحتاج إلى هذا المصباح... وقد فشلتُ حتى الآن في إيجاد ذلك الإنسان"

يوم وفاة ديوجين في أثينا، كان الكلب جالساً بقربه والمصباح مشتعل أيضاً... سأله أحد الأشخاص: "ديوجين... أنت تموت الآن.. هل تستطيع أن تقول ماذا حدث في بحثك عن الإنسان الحقيقي الصادق؟ هل وجدتَ أي إنسان مثله؟"

وكانت آخر كلمات ديوجين: "للأسف ولسوء الحظ لم أجد أي إنسان حقيقي، ولكن لحسن الحظ لم يقم أحد بسرقة مصباحي! هذا هو الشيء الوحيد الذي أستطيع قوله تجاه البشرية... أنا رجل أعيش عارياً وأنام كل يوم في برميل مفتوح، وكان بإمكان أي شخص أن يسرق المصباح".

لم يأخذ الحياة بجدّية مطلقاً... لكنه عاش بفرح وبهجة وتألّق، مثل كل حكيم مستنير زار هذه الأرض.

 

اقرأ: المزيد عن ديوجين والمذهب الكلبي (التهكمي) Cynicism

أضيفت في:4-3-2015... في قلب الله> يد الله مع الجماعة
.... إذا وجدت أن الموضوع مفيد لك، أرجو منك دعم الموقع

 

 

© جميع الحقوق محفوظة.. موقع علاء السيد