<<<< >>>>

ما هو سرّ الإبداع يا بديع؟

الإبداع ليس في الفِعل، وليس في عدم الفِعل..

الإبداع هو حالة متناقضة جداً من الوعي والوجود: إنه الفعل من خلال عدم الفعل!

هو السماح لشيء ما بأن يحدث من خلالك...

الإبداع ليس فعل بل سماح.. أن تتحول إلى معبر ليعبر من خلالك الله

مثل قصبة ناي فارغة يعبر بها الهواء فتملأ ألحانها السماء..

عندما تفرغ ذاتك يبدأ شيء فوراً بالحدوث، لأن الله مخفيّ داخل كل إنسان

فقط أفسح له المجال قليلاً ليعبر نوره خلالك.. وهذا هو الإبداع

إنه السماح لله أن يحدث داخلك

 

 

الإبداع هو حالة دينية روحية... لذلك، الشاعر أقرب إلى الله من رجل الدين والراقص أقرب أيضاً!

الفيلسوف هو أبعد شخص عن الله، لأنك كلما فكرتَ أكثر ستصنع جداراً أكبر بينك وبين الكون..

كلما فكرتَ أكثر، ستكون أنت أكثر... الأنا ليست إلا كل الأفكار التي تراكمت من الماضي.

 

عندما لا تكون، الله يكون... وهذا هو الإبداع

 

http://www.alaalsayid.com/images/articles/relax%20squerill.jpgالإبداع يعني ببساطة أنك في استرخاء تام.. وهو لا يعني الخمول وعدم الفعل، بل الاسترخاء.. لأنه انطلاقاً من الاسترخاء يولد الفعل... لكن ذلك لن يكون فعلك أنت، أنت ستكون مجرد وسيلة.

ستبدأ أغنية تنساب من خلال شفتيك، أنت لست صانعها بل أتت من الأبعاد..

عندما تصنع أنت الأغنية، ستكون أغنية عادية دنيوية.. أما عندما تعبر خلالك، ستحمل معها جمالاً فائقاً وشيئاً من المجهول.

عندما مات الشاعر الكبير Coleridge ترك خلفه آلاف القصائد غير المكتملة.. خلال حياته، سألوه: "لماذا لا تكمل هذه القصائد؟".. لأن بعضها كان ينقصه سطر أو سطرين فقط.

كان يجيب: "لا أستطيع.. لقد حاولت، لكنني عندما أكملهم يخرب شيء ما.. السطر الذي أكمله بنفسي، لا يتناغم أبداً مع ذلك الذي تدفق خلالي... دوماً يكون حجر عثرة في وجه النهر المتدفق.. لذلك عليّ أن أنتظر.. كائناً من كان الذي يتدفق من خلالي، متى ما عاد للتدفق وأراد إكمال القصيدة سيتم إكمالها، وليس قبل ذلك".

أكمل ذلك الشاعر بضعة قصائد فقط، لكنها ذات جمال أخاذ من قلب وروح وعطر وسر...

 

هذا هو الحال دائماً: يختفي الشاعر أو الفنان، بعدها يبقى الإبداع.. أي أن الفنان يكون مملوكاً أو مأخوذاً..

عندما تؤخذ بالله تماماً يتدفق الإبداع.

 

قال أحدهم: "الحياة مشغولة دائماً بشيئين اثنين معاً: كيف تُبقي ذاتها وكيف تتجاوز ذاتها.. لو كان كل شيء تفعله هو الإبقاء على ذاتها، لكان العيش مجرد عدم موت".... والإنسان غير المبدع هو فقط لا يموت لا أكثر.. حياته ليس فيها أي عمق.. حياته ليست حياةً بعد، بل فقط مقدمة، ولم يبدأ كتاب الحياة عنده بعد... رغم أنه وُلد لكنه لم يعش أبداً.

عندما تصير مبدعاً، عندما تسمح للإبداع بأن يحدث خلالك، عندما تبدأ تنشد أغنية ليست منك، تلك الأغنية التي لا تقدر على التوقيع عليها وقول أنها ملكك... عندها تتفتح أجنحة الحياة وتبدأ بالتحليق.

تجاوز الحياة يكمن في الإبداع.. وإلا فأقصى ما نقدر عمله هو المحافظة على البقاء.. تقوم بجلب طفل، هذا ليس إبداعاً.. أنت ستموت والطفل سيبقى لتستمر الحياة.. لكن مجرد الاستمرار لا يُعطي رضى للنفس ما لم تبدأ تتجاوز نفسك.. والتجاوز يحدث فقط عندما يأتي شيء من الأبعاد الخفية ويتواصل معك.

 

تلك هي نقطة القفز والتجاوز.. وفيها تحدث المعجزة:

أنت غير موجود، ولكنك لأول مرة موجود

 

إن جوهر الحكمة هو العمل والفعل بتناغم مع الطبيعة.. على الإنسان أن يتصرف بوعي وبتناغم مع الطبيعة، لأن الإنسان عنده وعي... يمكنه اختيار التصرف بتناغم، لهذا هناك مسؤولية عظيمة.

الإنسان خليفة الله على الأرض ويحمل مسؤولية رفضت الجبال أن تحملها.. فقط الإنسان عنده مسؤولية وهذه هي عظمته.. لا يوجد أي حيوان عنده مسؤولية، لأنه دوماً يتصرف بتناغم ولا مجال لأن يحيد عنه.. الحيوان لا يمكن أن يتوه عن الفطرة لأنه لم يمتلك الوعي بعد.. وهو يتصرف مثلما تتصرف أنت في نومك العميق.

في النوم العميق، أنت أيضاً تتناغم مع الطبيعة.. لهذا النوم العميق مريح ومنعش كثيراً، مجرد بضعة دقائق منه وستشعر أنك مولود فتي من جديد، وكل غبار النهار والتعب والضجر اختفى.. لقد اتصلتَ بالمصدر.

لكن هذه طريقة حيوانية للاتصال بالمصدر، هذا هو النوم... الحيوانات جسدها أفقي، والإنسان عمودي.. عندما تريد أن تنام، عليك أن تهبط إلى المستوى الأفقي، وعندها فقط يمكنك أن تنام.. لا يمكن أن تنام أبداً وأنت واقف.. عليك أن تعود مجدداً ملايين السنين للخلف مثل الحيوانات.. تستلقي وتجعل جسدك أفقياً موازياً للأرض، فجأة تبدأ تفقد الوعي، فجأة لم تعد مسؤولاً.

هذا هو سبب اختيار فرويد (مؤسس علم النفس والتحليل النفسي) للأريكة.. ليس لأجل راحة المريض بل هذه إستراتيجية خاصة.. حالما يصبح المريض أفقياً يتحرر من المسؤولية.. وما لم يشعر بالحرية الكاملة لقول أي شيء، لن يقول أشياء من لاوعيه.. إذا بقي مسؤولاً وعمودياً سيستمر بالحكم والمحاكمة والمراقبة: هل يقول هذا أو لا يقول ذلك...

عندما يستلقي المريض أفقياً على الأريكة، والمحلل النفسي جالس خلفه، يعود ويصبح فجأة مثل الطفل أو الحيوان.. ليس عنده مسؤولية، ويبدأ يتفوّه بأشياء لم يكن يقولها لأي شخص آخر، ويقولها لشخص غريب عنه.. أشياء مدفونة عميقاً في لاوعيه تبدأ تظهر للسطح.

حالما ترمي الشعور بالمسؤولية تصبح طبيعياً، وكان التحليل النفسي ذو فائدة كبيرة: يعطيك استرخاءً عميقاً.. كل ما كنتَ تكبته يظهر إلى السطح، وبعدها يتبخر.. بعد مرورك بالتحليل النفسي تشعر بخفة وراحة غير مسبوقة، وتصبح طبيعياً أكثر في تناغم أكبر مع الطبيعة ومع نفسك.. هذا هو معنى الصحة.

 

لكن هذا رجوع للخلف، علاج بدائي رجعي.. مثل التنقيب عن الآثار والمستحثات وتفتيش القبو القديم..

هناك طريقة أخرى للتجاوز، هي الذهاب إلى العليّة العالية.. ليست طريقة فرويد بل طريقة العارفين المستنيرين.

يمكنك تجاوز نفسك بأنك تكون متصلاً بالطبيعة بشكل واعي.

وذلك هو جوهر الحكمة: أن تتناغم مع الطبيعة، مع الإيقاعات الطبيعية للكون...

عندما تصبح في تناغم معها ستصبح شاعراً أو رساماً أو موسيقياً أو راقصاً.

 

جرّب هذا... أحياناً عندما تجلس قرب شجرة، اشعر بالتناغم بشكل إرادي واعي.. كن واحداً مع الطبيعة، دع الحواجز تذوب... صِر أنت الشجرة، أنت العشب وأنت الرياح، وفجأة سترى أن شيئاً لم يحدث لك من قبل بدأ يحدث الآن... عيناك تذبل وتسكر وتتخدر بطريقة ما: صارت الأشجار أكثر اخضراراً من أي وقت سابق، والورود أكثر سحراً، وكل شيء نضر ومشبع بالألوان كالأحلام... وفجأة ترغب بغناء أغنية، دون معرفة من أين أتت.. أقدامك مستعدة للرقص، يمكنك الشعور بنبض الرقصة يسير عبر عروقك، يمكنك سماع الشعر والموسيقى داخلك وخارجك.

هذه هي حالة الإبداع... يمكن قول أن هذه هي الصفة الأساسية لها: التناغم مع الطبيعة، مع الحياة ومع الكون..

الحكيم لاوتسو أعطاها كلمة جميلة: الفِعل من خلال عدم الفعل.. يمكنك تسميتها "السكون المبدع".. عملية تجري داخل المرء وتجمع شيئين يبدوان متناقضين: الفعل الفائق مع الاسترخاء الفائق.

هذا هو ميزان التناقض في الإبداع.. إذا راقبتَ فناناً يرسم، بالتأكيد هو فاعل نشط بحيوية وبجنون... وكذلك الراقص عندما يرقص بكل همة ورشاقة.. رغم ذلك، هناك في العمق لا يوجد فاعل ولا ممثل، بل فقط صمت معطّر.. لذلك أدعو الإبداع: حالة التناقض الخلّاق.. وكل الحالات الجميلة هي حالات من التناقض في الأصل.. كلما ارتفعتَ أكثر، ذهبتَ أعمق في تناقض الحياة والواقع.

فعلٌ فائق مع استرخاء فائق: على السطح يحدث فعل هائل، وفي العمق لا يحدث شيء..

السكون الخلاق هو أعظم فعل، أرقى مرونة، بساطة، عفوية، وحرية تتدفق من ذواتنا أو من خلالنا، عندما تستسلم الأنا الخاصة وكل الجهود الواعية إلى قوة أعلى.

 

الرضوخ والاستسلام إلى قوة تتجاوز ذاتك هو الإبداع

 

http://www.alaalsayid.com/images/articles/whirlpoool.jpgوعندما تختفي الأنا، يختفي الجرح داخلك، فتتعافى وتتكامل..

الأنا هو مرضك الوحيد، وليس مرض بل سوء فهم..

وعندما تختفي الأنا لن تبقى كامناً أو كامداً، ستبدأ تتدفق.. تتدفق مع نهر الوجود الهادر..

قال أحد العلماء: "نحن لسنا أشياء جامدة ثابتة، بل أنماط تحافظ على استمرارها، دوامات من الماء في نهرٍ جاري أبدي"

 

عندها أنت لا تكون "أنا" بل حدث أو عملية من الأحداث.. عملية وليس شيء.. فِعل وليس اسم..

الوعي حيّ وليس شيئاً ميتاً، إنه عملية متواصلة وقد جعلناه شيئاً.

في اللحظة التي تُسمّيه فيها "أنا" يتحول إلى شيء محدد ومربوط، جامد وهامد.. وتبدأ بالموت.

 

الأنا هو موتك.. وموت الأنا هو بداية حياتك الحقيقية..

والحياة الحقيقية هي الإبداع..

 

لستَ بحاجة للذهاب إلى أي مدرسة أو جامعة لتتعلم الإبداع.

كل ما تحتاجه هو الذهاب للداخل ومساعدة الأنا لكي تذوب..

لا تدعمها.. لا تستمر بتقويتها وتغذيتها..

حالما تختفي الأنا، لن يظهر سوى الحقيقة والجمال وكل ما يحدث يكون جيداً..

 

وأنا لا أقول أن كل الناس سيصبحون بيكاسو أو شكسبير.. بعضهم يصبحون رسامين، والبعض مطربين، والبعض موسيقيين وراقصين.. تلك ليست النقطة.

كل واحد سيصبح مبدعاً بطريقته الخاصة به.. ربما تكون طباخاً لكن الإبداع سيكون بهارات طبخك... أو قد تكون عامل نظافة مبدعاً في عملك من قلبك دون أي ملل.

ستصبح مبتكراً في الأشياء الصغيرة.. حتى في التنظيف سيكون هناك نوع من العبادة والصلاة..

مهما كنتَ تفعل سيحمل فِعلك طعماً من الإبداع.. والأرض لا تحتاج لكثير من الرسامين مثلاً، لو أن كل الناس صاروا رسامين لأصبحت الحياة صعبة جداً.. نحن نحتاج لفلاحين ومهندسين وكل أنواع الأعمال.. لكن كل شخص يمكنه أن يكون مبدعاً في مجاله.. إذا كان متأملاً في حالة فناء ونقاء من الأنا، سيبدأ الله يتدفق خلاله.. حسب مقدراته وطاقاته الكامنة سيبدأ الله يتجلى ويتجسد.

عندها كل شيء جيد وجميل.. ولا تحتاج لأن تكون مشهوراً.. الشخص المبدع حقاً لا يهتم أبداً بالشهرة لأنه ليس بحاجة.. إنه مُشبع وراضي تماماً بأي شيء يفعله وأينما كان بلده ومسكنه.. بحيث لا يوجد أدنى رغبة لأي شيء..

 

عندما تكون مبدعاً، تختفي الرغبة

عندما تكون مبدعاً، يختفي الطموح

عندما تكون مبدعاً، تكون على ما أردتَ دوماً أن تكون عليه

 

أضيفت في باب:14-6-2015... > كيف نربي أطفالنا؟
.... إذا وجدت أن الموضوع مفيد لك، أرجو منك دعم الموقع

© جميع الحقوق محفوظة.. موقع علاء السيد