موقع علاء السيد... طباعة
<<<< >>>>

هل المدينة الفاضلة نظرية خرافية أم حقيقة أصلية؟

الحياة، دون فكرة المدينة المثالية الفاضلة، لن يكون فيها أي شيء أفضل..

هذه حقيقة أساسية.. المدينة الفاضلة تعني ببساطة أننا غير راضين بالمجتمع الذي نعيش فيه، وأننا مُحبطون تماماً من البنية الاجتماعية التي تم فرضها علينا، وأن هناك استياء كبير تجاه كل شيء.. المدينة الفاضلة هي ببساطة رغبة في إيجاد مجتمع أفضل، بشرية أفضل، نظام تعليمي أفضل، علاقات أفضل بين الناس وبين الرجل والمرأة وبين الأهل وأولادهم.

 

المدينة الفاضلة هي ببساطة قرف من الوضع الراهن... وجميع أصحاب المصالح الكبرى الخاصة يدعمون مقولة أن المدينة الفاضلة وهم وخرافة لأنهم يريدون الناس قانعين وراضين، تماماً كالأبقار الحلوبة التي تأكل العشب، نفس العشب طوال حياتها، وكأنها خُلقت فقط لأكل ذلك العشب ثم تموت بعدها.

 

ستُفاجأ عندما تعرف هذه الأشياء ..هل رأيتَ الحيوانات وهي تمارس الحب؟ لا بد أنك لاحظتَ بأنها لا تبدو سعيدة خلال عملية التكاثر.. لا يبدو أنها منتشية ومبتهجة، بل كأنها حزينة يائسة وكأن الموضوع مجرد ضرورة وقوة غريزية تجبرها على ذلك.. لذلك السبب، عندما ينتهي موسم الحب عندها، لا تظل الذكور تنظر إلى الإناث ولا الإناث تنظر إلى الذكور، كل الاتصالات قد انتهت ولم يبقى حتى صداقة! إن حب الحيوانات شيء آلي مفروض عليها.. ليس متعة أو بهجة.. لذلك لأجل ماذا تعيش؟ فقط لأكل العشب ثم لتموت يوماً ما..

 

أصحاب المصالح الكبرى في عالم البشر يرغبون أيضاً بأن يكون الناس قطيعاً من الأبقار.. ابقَ راضياً بفقرك، قانعاً بمرضك، وقابلاً لموتك البائس في المعاناة والألم.. يجب ألا يكون عندكم مشكلة في ذلك، ولا يكون عندكم مكافأة أو جهود لجعل الأشياء أفضل.. بهذا يستمر أصحاب المصالح باستغلالكم دون عوائق، ودون أدنى شعور بالذنب بأنهم يستغلونكم.

وهناك في الحياة كل أنواع الطفيليات: هناك رجال الدين وهناك السياسيين.. كل اهتمامهم هو إبقاؤك في حالة غيبوبة، وأن تظل بحالة السير وأنت نائم.. نعسان وسكران، تؤدي عملك بطريقة ما لكن دون اهتمام بأن أمورك يمكنها أن تتحسن.... وقد أقنعوا الناس طيلة آلاف السنين بأنه هذه هي طبيعة الحياة والبشر ولا يوجد احتمال لأكثر من ذلك.. العناء مكتوب عليك، اليأس هو قدرك، وكل هذا قد أراده الله وكتبه سلفاً ولا يمكنك تغييره.. يقولون في كل الأديان أنه لا تسقط ورقة شجر ولا حتى شعرة من رأسك دون عِلم من الله.. إذن ماذا يمكنك أن تفعل أكثر من ذلك؟

ليس محض مصادفة أن بلداً مثل الهند بقيت عشرة آلاف سنة دون رؤية أي ثورة وعي.. رغم أن الهند فيها أسوأ نظام اجتماعي وربع الهندوسيين عاشوا تماماً كالخراف.. يدعونهم بالناس المحرّم لمسهم لأنهم "نجسين" أسوأ حتى من الحيوانات.. الحيوانات يمكنك لمسها أما أولئك البشر فحرام! وليس هم فحسب بل حتى خيالهم ممنوع لمسه.. إذا سقط عليك خيال أحدهم وجب عليك الاستحمام لتطهير نفسك! وقد قاموا بإقناع أولئك الناس بأن هذا قدرهم المكتوب عليهم منذ ألوف السنين ولا يمكن القيام بشيء لتغييره.. في الهند، لم يكتب أي شخص مثلما كتب السير توماس مور Sir Thomas More، عن المدينة الفاضلة أو اليوطوبيا.. رغم أن الهنود قد كتبوا ألوف الكتب الأدبية الضخمة.. لكن ليس هناك أي كتاب يعطي نوعاً ما من الأمل أو إمكانية للثورة أو التغيير.. لا.. هذه الكلمات غير مستخدمة.

 

هذا هو ما يريده أصحاب المصالح عبر العالم بكامله وليس الهند فحسب.. لذلك كل مَن يقول أن المدينة الفاضلة خرافة وسخافة هو ذاته شخص سخيف ومنافق.

 

المدينة الفاضلة هي بالتأكيد ضرورة مطلقة...

 

حالما تتحرر البشرية من كل أصفادها وسجونها، حالما نقدر على جعل المدينة الفاضلة حقيقة واقعية، عندها قد لا نحتاج لفكرة المدينة الفاضلة، لكني لا أعتقد ذلك لأننا لا نقدر على جعل أي شيء تاماً مثالياً.. الكمال التام ليس جزءاً من الوجود، وكل شيء فيه يبقى غير تام.. بل هو يصبح أفضل فأفضل باستمرار، ويقترب باستمرار من الكمال، لكنه لا يصبح كاملاً أبداً.. وهناك سبب هام جداً خلف ذلك: في اللحظة التي يصبح فيها أي شيء كاملاً يموت!

 

الكمال هو موت.. طبعاً العكس غير صحيح، فالموت لا يعني الكمال، لكن الكمال حتماً موت.. لأنك حالما تجلب أي شيء للكمال سيتوقف نموّه.

عندها لا يوجد المزيد، ولا مكان يذهب إليه ولا شيء يفعله أكثر.

 

تحتاج الطاقة البشرية تدفقاً مستمراً لتبقى حية.. إنها مثل النهر، لا مثل البِركة.. تحتاج للتدفق باستمرار والانتقال بين عدة جبال وسهول إلى أن تصل للمحيط.

 

البِركة ببساطة لا تذهب لأي مكان.. هكذا يريد أصحاب المصالح أن يكون المجتمع: بِركة وليس بَرَكة.. بِركة لا تذهب لأي مكان، بل ببساطة تتبخر وتموت تاركةً خلفها الطين المتسخ...

طاقات الحياة نهر هدّار، نهر لا يصل أبداً للمحيط، نهرٌ يستمر دوماً بالبحث والسعي والإيجاد، لكن هناك دوماً المزيد للإيجاد.

 

تقول القصة... كان هناك حطاب كبير جداً بالعمر ودون أي عائلة ..زوجته قد ماتت وليس عنده أولاد.. ولكي يُطعم نفسه فحسب، في هذا العمر الكبير حوالي 80 سنة، كان عليه العمل بجهد فيذهب للغابة لكي يقطع الحطب ثم يبيعه كل يوم.. وأكثر مال يحصل عليه كان يكفي لشراء الطعام فقط.

 

اعتاد كل يوم خلال سيره في الغابة على رؤية حكيم يجلس تحت شجرة.. وكما هي العادة والتقاليد، كان يسلم على الشيخ ويقبل يده ليتبارك به.. ثم يتابع سيره إلى العمل.

 

بدأ الحكيم يشعر بالحزن على هذا الرجل الهرم.. وفي أحد الأيام قال له: "أنت رجل غريب، أليس عندك أي فضول؟ لأنك إذا ذهبت أعمق قليلاً في الغابة، ستجد منجماً للنحاس..عندها مجرد عمل يوم واحد سيكفي لشراء الطعام لسبعة أيام.. بينما أنت الآن مجبر على العمل كل يوم.. حتى أنا صرت حزين لأجلك.. لذلك أنصحك بالذهاب أعمق".

 

كان الرجل متردداً لأنه يعرف الغابة.. ولكن مَن يعلم؟ ربما الحكيم كان على حق لأنه أيضاً يسكن في الغابة منذ زمن ويجلس تحت الشجرة.. لذلك قام بالمحاولة دون أمل أو توقع.. لكنه وجد منجماً للنحاس.. جمع منه ما يكفي وباعه فكان فعلاً كافياً لأسبوع.

 

جلس يرتاح في بيته.. وعاد بعد أسبوع وكانت تظهر عليه بعض علامات النشاط والصحة.. قبّل يد الحكيم وقال: "هذه المرة لا أقبّل يدك بسبب التقاليد بل لأنني فعلاً ممتن لك".

قال الحكيم: "بهذه السرعة؟ أنت أحمق! إذا ذهبت أعمق قليلاً ستجد منجماً للفضة.. عمل يوم واحد سيكفيك شهراً".

 

لم يستطع الرجل تصديق ذلك فقد قضى كل حياته في فقر وبؤس وشقاء.. لكن الحكيم أثبت صدق كلامه في المرة الأولى، وربما يكون صادقاً هذه المرة أيضاً.. أو ربما يكون الحكيم يمزح أو يسخر منه لكن لا ضرر من المحاولة.

 

ذهب أعمق قليلاً فوجد منجماً للفضة فقال: "يا إلهي! لقد كنت أهدر كل حياتي في تقطيع الحطب.. كان عملاً متعباً وأيضاً بيعه كان متعباً.. كان هناك عدة حطابين يتنافسون أيضاً"... جمع بعض الفضة وكانت فعلاً كافية لمدة شهر.. عاش براحة ورفاهية.. وعاد بعد شهر فانحنى للحكيم وقال: "أنا فعلاً ممتن كثيراً لك، وأعتذر لأن لحظاتٍ من الشك أتت لي".

 

قال الحكيم:"أنت لم تفهمني حتى الآن.. اذهب بعمق أكثر قليلاً".

 

قال الرجل:"لأجل ماذا؟ أنا أعيش برفاهية كبيرة!"

 

قال الحكيم:"أنت لا تعرف ما هي الرفاهية.. اذهب أعمق وستجد منجماً للذهب".

 

كان ذلك أبعد من مخيلة الحطاب.. أن يجد منجماً للذهب لكنه ذهب.. فالآن لا مجال للشك لأن الحكيم يعرف جيداً..

ووجد الذهب.. وقال له الحكيم: "هذا سيكفيك سنة كاملة.. الآن ربما لا أستطيع رؤيتك إلا بعد سنة".

 

قال الحطاب: "لا.. سآتي كل فترة فقط لأقبّل يدك وأتبارك.. أنت رجل المعجزات! لماذا تستمر بالجلوس هنا بينما تعرف الكثير عن الفضة والذهب؟"

في الزيارة التالية، ظهر الحطاب كشخص مختلف تماماً.. يرتدي حذاءً جميلاً وثياباً أنيقة وقد أصبح شاباً أكثر بصحة وجسد ممتلئ بعد أن كان هيكلاً عظمياً.

 

استغرق الحكيم بعض الوقت ليتعرّف عليه ويتذكره.. وقال: "إذن، هل تسير أمورك على ما يرام؟"

 

قال الرجل: "أموري ممتازة جداً.. لكنني الليلة الماضية تذكرت.. ربما هناك شيء بعد أكثر من كل هذا".

 

قال الحكيم: "الآن وأخيراً قدرتُ أن أصل لقلبك.. الآن صار عندك أمل ومستقبل واعد.. نعم هناك أكثر من هذا: منجم ألماس".

 

قال الرجل: "يا الله، لماذا لم تقل لي هذا منذ البداية؟ لماذا كان عليّ إضاعة وقتي بالنحاس والفضة والذهب؟"

 

قال الحكيم: "لم تكن ستصدّقني وتثق بي.. لم تكن ستذهب لو قلت لك عن الألماس.. كان عليّ دفعك ببطء... والآن أنت أتيتَ لوحدك لتسألني، وهذه علامة جيدة.. أنت لم تعد قانعاً وراضياً، رغم أنك تعيش برفاهية أكثر من كل الناس هنا".

 

قال الرجل: "هذا صحيح.. سأحاول الآن"... ذهب فوجد أحجار الألماس.. هنا عندما كان عائداً، ولأول مرة، عاد أيضاً للحكيم لتقبيل يده... وقال: "الآن ربما لن أعود إليك أبداً بعد اليوم.. هذه المجوهرات تكفي طيلة حياتي.. لهذا أتيت الآن لأشكرك آخر مرة".

 

قال الحكيم: "لكن هناك شيء أكثر من ذلك أيضاً.."

 

قال الرجل: "لا.. ليس هناك أكثر من الألماس.. ماذا هناك أكثر منها؟ أنت الآن تمزح دون شكّ!"

قال الحكيم: "صدّقني.. تعالَ على الأقل مرةً أخرى.. فهناك شيء أكثر من الألماس".

 

وظهر الرجل في اليوم التالي تماماً.. لم يستطع النوم طوال الليل.. كان عنده من الألماس ما يكفي ليعيش كل حياته مثل الملوك لكنه أتى في اليوم التالي.

كان الحكيم جالساً مغلق العينين، كانت هذه أول مرة.. قبّل الرجل يده لكن الحكيم كان جامداً كالتمثال فلم يتحرك أو يستجيب.

هزّ الرجل الحكيم وقال: "ماذا حدث؟ كنت ستريني شيئاً أكثر من الألماس".

قال الحكيم: "هذا هو ما أظهره لك.. الشيء الأكثر من الألماس هو كيانك أنت.. فقط اذهب بعمق أكثر قليلاً.. ما لم تكتشف منجم كيانك الداخلي فأنت لم تجد شيئاً بعد".

قال الرجل: "الآن أستطيع أن أفهم لماذا أنت دائماً تجلس هنا تحت هذه الشجرة دون الذهاب لأي مكان أو الاهتمام بالألماس وكلام الناس... الآن سوف أجلس جانبك تحت هذه الشجرة إلى أن أجد المنجم الذي تتحدث عنه.. إنه صعب جداً.. المناجم الأخرى كانت سهلة جداً، مجرد الذهاب بعمق أكثر قليلاً.. أنت الآن غيرتَ كل الاتجاه عندي".

 

بينما كان الحطاب جالساً بصمت في الغابة وفي حضور الحكيم، ذائباً في نوره وصمته وكيانه المحبّ، مضى اليوم بكامله وعندما غابت الشمس كان الرجل مندهشاً كثيراً.. فتح عينيه وقال: "لقد كان عليك إخباري من قبل.. لقد كنتُ أمرّ من هنا كل يوم.. أليس عندك رحمة؟ طوال سنوات عديدة كنت أقطع الحطب وأحمله على كتفيّ، بينما أنت تجلس هنا ببساطة وتستمتع بهذا الشعور الداخلي المبهج ولم تقل لي شيئاً عنه".

 

قال الحكيم: "لم تكن ستصغي لكلامي.. في البداية لابد من الألماس.. الآن يمكنك العودة إلى البيت لأن منجم كنوزك صار داخلك.. فقط تذكر شيئاً واحداً: استمر بالذهاب ولا تتوقف أبداً.. ليس هناك نقطة في آخر السطر لأن كل نقطة هي جمود وموت".

 

قد نستطيع صنع شيء أفضل من كل المدن الفاضلة في العالم والتي حلم بها ملايين الناس، لكن المدينة الفاضلة ستبقى تلوح دائماً في الأفق.. ستبدو قريبة جداً كأنك تستطيع الوصول إليها، بمجرد سيرك مدة ساعة تجاهها، إلى نقطة التقاء الأرض بالسماء.. ولكن مع اقترابك من الأفق سيستمر الأفق بالتراجع مبتعداً.. وتبقى المسافة بينك وبين الأفق ثابتة دائماً.. وهذا هو كل سر النمو والتطور.

 

المعجزات ممكنة، لكن ولا أي معجزة منها ستكون كاملة تامة أبداً.. التمام والكمال مستحيل، ومن الجيد أنه مستحيل.. هذا يُبقيك تسير، يبقيك حياً ومتدفقاً كل لحظة إلى مزيد من اليقظة...

 

أنا أؤيد تماماً فكرة المدينة الفاضلة وأعرف أن أفكار الناس عنها سوف تتغير.. كل ما وصلنا إليه لن يكون جزءاً منها، لكن أشياء أخرى ستصبح جزءاً منها.. ليس هناك أي طريق آخر.

 

تطور الإنسان هو تطور متعدد الأبعاد، وعيه يستطيع النمو إلى اللانهاية.. ويجب أن ينمو إلى اللانهاية...

http://www.alaalsayid.com/images/articles/osho_6160.jpg

أضيفت في:3-11-2017... رؤية للعالم الجديد> اقطع الجذور!
.... إذا وجدت أن الموضوع مفيد لك، أرجو منك دعم الموقع

 

 

© جميع الحقوق محفوظة.. موقع علاء السيد